18 May
18May

الحكومات في بلداننا مصابة بداء النرجسية، وتعشق نفسها عندما تراها في عيون المداحين والمطبلين لها. وتقييم الأداء الحكومي في العراق من أعقد الموضوعات التي يمكن أن يفكر بالكتابة عنها أي باحث أكاديمي أو كاتب صحفي، لأن الحكومات لا تحب من ينتقد سياساتها، وهوس السلطة يجعلها فاقدة لمعيار التمييز بين من ينتقد عملها بدوافع سياسية وحزبية، وبين آخر يجمع هموم المواطن المغلوب على أمره والتزاماته الأخلاقية والمهنية في تقييم الواقع.

والشاهد على ذلك جلسة مجلس الوزراء العراقي في نهاية عام 2020 التي تحولت إلى جلسة للمديح والتغني بشخص السيد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، كما عبر عن ذلك بعض الوزراء. وقد دفع الحماس بأحدهم إلى وصف كل من ينتقد هذه الحكومة وشخص رئيس وزرائها ب(الكذب والافتراء)! أما رئيس الوزراء في كل لقاء أو تصريح لا يتردد في انتقاده للأصوات المعترضة على سياسة الحكومة أو التي تتهمها بالضعف أو التقصير في تنفيذ مهامها ووظائفها. فتارة يصفهم بالمزايدين، أو من يحاولون "شيطنة رئيس الوزراء". "عام على حكومة الكاظمي"، كان موضوعا لتقريرين نشرتهما مؤسسة السلام الأميركية عنوانه: "أين العراق بعد عام على تولي الكاظمي منصبه".

أما التقرير الثاني فنشرته صحيفة العالم الجديد البغدادية بعنوان: "الكاظمي ميتر" يحصي 41 وعدا أطلقه رئيس الحكومة منذ عام فماذا تحقق؟ تقرير معهد السلام يحاول تقييم حكومة الكاظمي بطريقة وصفية من منظور فوقي، واعتمد على ما تسوقه حكومة الكاظمي من تحديات العمل في البيئة السياسية المعقدة والمنقسمة في العراق وخطوات الحكومة في المجالين السياسي والاقتصادي التي تعدها إنجازات.

أما التقرير الذي أعدته صحيفة العالم الجديد اعتمد في تقييم الأداء الحكومة على الوعود التي أطلقها الكاظمي منذ توليه المنصب ومن خلال إعداد إحصائية للوعود التي أطلقها. إذ تسجل الإحصائية 41 وعدا للكاظمي تتعلق بملفات السياسة والأمن والاقتصاد والخدمات الأخرى، ويؤشر التقرير أخفاقه بتنفيذ 34 منها (83%) إخفاقا تاما، مقابل تحقيقه ثلاثة وعود فقط (7.3%)، فيما أوفى جزئيا بتحقيق 4 وعود أخرى (9.7%).

دعونا نبدأ تقيمنا لحكومة الكاظمي، من القاعدة المنطقية التي تقول بأن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة، وهنا تحديدا تبدأ أول الأخطاء التي ارتكبها السيد الكاظمي كونه لم يسع إلى استغلال الظروف السياسية التي كانت في بداية التكليف، إذ كان المفترض أن يكون هو من يملي شروطه على الفرقاء السياسيين بعد أن عجزوا عن الاتفاق على بديل لحكومة عادل عبد المهدي التي أجبرت على الاستقالة.

فالكاظمي من خارج منظومة العمل السياسي لكنه ينتمي إلى منظومة الحكم، فهو رئيس جهاز المخابرات والقادم من عالم الصحافة ويعرف خفايا وتفاصيل عقد الصفقات والتوافقات. وقبوله بالمنصب لم يكن على أساس اشتراطاته في إدارة هذه الفترة الحرجة وإنما وفقا لاشتراطات المنظومة السياسية التي أنتجت الخراب والفوضى، وكانت تبحث عن شخصية لإدارة الفوضى التي أسستها وليس لتصحيح عمل النظام السياسي.

وعلى هذا الأساس تكرار شكوى وتذمر رئيس الوزراء بأنه قد "ورث تركة ثقيلة وليس لديه كتلة سياسية في البرلمان" هو تهرب غير مقنع من المسؤولية؛ لأنه يعلم جيدا بأن التكليف لم يكن خيار الكتلة النيابية الأكثر عددا، وإنما هو نتاج التحالفات الهشة لزعماء الطبقة السياسية التي رغم اختلافاتها إلا أنها تتفق على تقاسم غنائم السلطة. أمنيا لا أحد يختلف على فشل الكاظمي فشلا ذريعا في استعادة هيبة الدولة وحصر السلاح بيدها، إذ باتت شوارع بغداد بين فترة وأخرى ساحة لاستعراضات الميليشيات والجماعات المسلحة التي تنفذ أعمالا خارج القانون وتعتدي على الممتلكات الخاصة.

ولذلك كان تعهده في خطاب التكليف بحصر السلاح بيد الدولة مجرد أقوال من دون أفعال. أما التبريرات بشأن عجز الحكومة عن القيام بوظائفها فهي مضحكة لأنها تثير السخرية أكثر من الإقناع، ومبكية كونها تعبر عن تقاعس واضح وصريح في ضياع هيبة الدولة وتخاذل الحكومة عن القيام بوظائفها في حماية المواطنين.
وما تريد حكومة الكاظمي عده منجزا اقتصاديا، ولعل الحديث عن الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي بات نوعا من الثرثرة أكثر من كونه يعبر عن إجراءات تصحيحية لإدارة الاقتصاد الريعي، فموازنة 2021 لم تختلف عن سابقاتها التي كانت تعبر عن شرعنة لهدر المال العام وعن أبواب لتنمية ثروة المكاتب الاقتصادية التابعة لمافيات أحزاب السلطة، والدفاع عن رفع سعر صرف الدولار لم ينتج إلا تآكلا في مدخولات الطبقة الوسطى وارتفاعا في أعداد نسبة التضخم والفقر، ولم يعالج الأرقام الفلكية في مزاد العملة. وكذلك الحديث عن معركة استعادة السيطرة على المنافذ الحدودية، لم يحقق الانتصار الذي تتفاخر به الحكومة، إذ لا يزال ما يدخل إلى ميزانية الدولة من واردات المنافذ هو بنسبة 10% فقط، كما صرح بذلك وزير المالية في لقاء صحفي مع قناة الشرق للأخبار في شهر مارس الماضي!.

أما الحديث عن محاربة الفساد فهو يبقى شعارا من دون أن تتم استعادة الأموال من جيوب الفاسدين والتي بلغت أزيد من 150 مليار دولار! سياسيا، اختار رئيس الوزراء سياسة الرقص مع الأفاعي، لكنها لم تمنع الدولة من التعرض إلى لدغاتها السامة، فهذه الأفاعي تجمع بين المتناقضات؛ كونها تهيمن على الدولة ولكنها بنفس الوقت تتمرد عليها!.

وعلى هذا الأساس أصبحت حكومة الكاظمي في تناقض واضح بين تصريحاتها ومواقفها، فهي تعترف بوجود "تنمر" على الدولة من الجماعات المسلحة والخارجة عن القانون، لكنها تصف الاستعراضات العسكرية التي تصول وتجول بين فترة وأخرى في شوارع بغداد من قبل جماعات اللادولة، بأنها استعراضات وقوة "الهدف منها تصفية الحساب مع رئيس الوزراء"، وكأنما هو يمثل شخصه وليس يمثل منصب القائد العام للقوات المسلحة والتعرض والإساءة ليس لشخصه وإنما لرمزية المنصب السياسي الأعلى في الدولة! ولا تزال مواقفها متناقضة بشأن "المقاومة" إذ في الوقت الذي وصف الكاظمي السيد مقتدى الصدر ب"زعيم المقاومة في العراق وعلى عناد الجميع"، كان السيد وزير الخارجية فؤاد حسين يرفض الاعتراف بوجود مقاومة في العراق، وكل من يقوم بعمليات عسكرية ضد البعثات الدبلوماسية فهي عمليات تندرج تحت وصف الإرهاب! لم تكن حكومة الكاظمي مطالبة بصناعة المعجزات أو تحقيق نقلة نوعية في مستويات الازدهار الاقتصادي والتنمية وتوفير الخدمات، ولكنها كانت مطالبة بإيقاف الفوضى عند الحدود التي وصلت إليها.

ومشكلة حكومة الكاظمي لم تلتزم بالمهام الأساسية التي يؤكدها دوما، ألا وهي إجراء الانتخابات المبكرة، ومحاسبة قتلة المتظاهرين، واستعادة جزء من هيبة الدولة، وهذا ما يسمح به الوقت المحدد لفترة ولاية هذه الحكومة. وعلى العكس من ذلك ورطت نفسها في كثير من الملفات المعقدة التي تحتاج استراتيجيات واضحة وصريحة وتحتاج إلى نمط جديد في إدارة مؤسسات الدولة، وتقادم في الزمن حتى تحقق نتائجها.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة