11 Dec
11Dec

افتُتحت أمامنا شوارع دمشق العتيقة وكأنها كانت تحمل نبوءة اللقاء الأخير بيني وبين صديقي الفنان علي جودة الذي هد جسده المرض في العراق المريض واختطفه الموت هذا الأسبوع في عمر مبكر ليكسر قلب الأغنية العراقية "كمْ مرة كُسر قلبها؟" تحدث لي وكأن كل السنوات التي عشناها في بغداد لم تكن كافية ولعل الأسبوع الذي نقضيه مصادفة في دمشق يحرضنا على الاستذكار الموجع. كذلك جمعت مع علي أسرار الأغاني، بينما كانت بغداد الحرائق على الضفة الأخرى، تضرم نارا لتصل بعد سنوات إلى دمشق الحرائق.
بقي علي يفكر كيف يجد عراقه في الأغنية وكان يحدثني عبر المسافات ما بين بغداد ولندن، حتى قال لي قبل سنوات قليلة أستمع لـ "صبرا ياوطن" ليقول في هذه الأنشودة العراقية بامتياز قل نظيره، ليس بمقدورهم اختطاف الأغنية وهم يختطفون البلاد.
اختار علي جودة في "صبرا ياوطن" مقاطع من قصائد عبدالرزاق عبدالواحد، ومحمد سعيد الحبوبي وعريان السيد خلف، واستلهم في لحنها عمق المقامات البغدادية وإيقاع الخشابة البصرية والأطوار الريفية، ليغني للعراق الحقيقي في وجه العراق المزيف!
من يستمع إلى هذه الأغنية يشعر أن ناظم الغزالي ويوسف عمر وداخل حسن، حاضرون بأرواحهم في اللحن الذي وضعه علي وغناه بوجع عراقي.
بوسعي أن أقول إن الفنان علي جودة اكتفي أن يؤرخ لغنائه بـ "صبرا ياوطن" من دون أن يدرك أن الموت يقترب منه لتكون آخر ما غنى!
علي جودة ابن جيل الثمانينيات في الأغنية العراقية لكنه بدا أبعد من ذلك وكان يرى في غنائه امتدادا لأصوات مدينته الناصرية فهو يعيد الحنين لأصوات حسين نعمة وستار جبار وقيس حاضر وكمال محمد، ومن يستمع لأدائه للحن محمد جواد أموري لقصيدة كامل العامري "أيامنا الحلوة" التي كانت من بين أولى أغاني حسين نعمة، تكتنفه مشاعر خلابة.
هذا الفنان كان يدرك العمق التعبيري في الغناء لأنه درس الموسيقى في معهد الفنون الجميلة، وتخرج عازف كمان بارع ومن ثم عود، لذلك هو ملحن ناجح، كما نجد ذلك في الأغاني التي لحنها لصوته "وين الأسمر" "خليني وحدي" "شلون اضيعك" و "كيف أسامح" وكتبها محمد المحاويلي و"لا تسألي" للشاعر طالب السوداني.
إنه يمتلك صوتاً مخملياً مكتملا يدخل القلوب أينما كانت، وعُربه غير مصطنعة بقرار جميل وجواب أجمل، صوت لا يتغير عند غناء كل الطبقات، مثلما يمتلك علي جودة أذنا موسيقية متكاملة بحكم دراسته للموسيقى.
تكاد تكون تجربته مع الملحن كريم هميم التعريف الأمثل لغنائه الذي بقي في الوجدان العراقي على مدار عقود.
لحن له هميم "شغيرك" التي كتبها كاظم السعدي و "ناسيك" للشاعر جبار صدام ثم "زعلان خلي" نص محمد المحاويلي.
لكن علي وكريم أرّخا في "حتى أنت" واحدة من ألمع الأغاني في عقد الثمانينيات والتي لم يخفت، حتى اليوم، التساؤل الكامن فيها، كتبها جبار صدام. لحن بمواصفات متنقلة في غاية الصعوبة، اعترف لي كريم بأنه لا يستطيع أداء الأغنية وإن كان ملحنها بنفس روعة غناء علي.
لم تقتصر التجربة على كريم، فسبق وأن أختار علي نصا متفائلا للشاعر جبار الغزي يفند الصورة السوداوية عن قصائد الغزي "لعيونك الحلوات" لحنه جمال فاضل ثم "بين الراح وبين الجاي" التي كتبها كاظم السعدي ولحنها كريم عاشور، لكن لحن الفنان حكمت ناهي لقصيدة علي حمزة "شي غريب" تعد إحدى أروع جواهر أغاني علي جودة.
بينما بقيت أغنية "لو أصاحب" التي كتبها جبار صدام أشبه بصوت كل العراقيين أبان طوق الحصار الأعمى الذي فرض عليهم، وكأنها تناشد خذلان الأصدقاء وكم بقي منهم آنذاك؟
رحل علي جودة بعد أن خذله جسده ولم تسعفه الأغاني كلها!



الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة