18 May
18May

قبل أيّامٍ صوّت البرلمان الجورجي، بأغلبية 84 صوتا مقابل 30 على مشروع قانون تقدمت به الحكومة برئاسة رئيس وزرائها إيراكلي كوباخيدز المنتمي إلى حزب “الحلم الجورجي” يتعلق بشأن “شفافية التأثير الأجنبي” في قراءة أخيرة، يهدف إلى تعزيز شفافية التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام العاملة على الأراضي الجورجية. وسط تنديد واستنكار أمريكي.
ويفرض مشروع القانون الجديد على الكيانات الاعتبارية ووسائل الإعلام غير الربحية، ممن يفوق تمويلها أكثر 20 بالمائة من مصادر أجنبية، تسجيل نفسها كمؤسسات ترعى مصالح أجنبية”، في سجلات الدولة. وفي وقت التسجيل يجب أن تعكس تلك المؤسسات الدخل الذي تحصل عليه من المصادر الأجنبية، وكذلك الإعلان عن ذلك. تحت طائلة غرامة قدرها 25 ألف لاري أي 9500 دولار تقريبا. في حالة رفض التسجيل أو الإعلان عن ذلك.
لكن ما لا يفهم، هو ردة الفعل الأمريكية المتسمة بالصفاقة على مشروع قرار سيادي يهم دولة مستقلة ذات سيادة، والتي جاءت على لسان مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية والأوراسية، جيمس أوبراين، في صيغة تهديد بفرض عقوبات على سلطات تبيليسي في حال دخول المشروع حيز التنفيذ، وهو السبب الذي يدفعنا للتساؤل حول معنى هذا التدخل الأمريكي السافر في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة.
أولا، من حق جورجيا أن تتخذ ما تشاء من القرارات التشريعية التي تخدم مصالحها، دون تَدَخُّلٍ من أية جهة خارجية كانت، لأن ذلك يدخل ضمن سيادتها الوطنية، التي تكفله لها القوانين الدولية، ثم إن مشروع القرار التشريعي الجورجي الذي جرى التصويت عليه – رغم الشجارات التي حدثت بين المؤيدين والمعارضين داخل قبة البرلمان – إلا أنه تم بطريقة شفافة وديمقراطية، تخللته مجموعة من القراءات داخل البرلمان الجورجي، قبل دخوله مرحلة التصويت النهائي عليه.
لطالما شكلت مثل هذه المنظمات غير الحكومية ذراع الإمبريالية الأمريكية لتأجيج الأوضاع الداخلية للدول وزعزعة استقرارها، إما بإسقاط الأنظمة التي لا تتماهى مع هوى واشنطن أو بهدف ابتزازها والسيطرة عليها والتدخل في شؤونها الداخلية، تحت شعارات واهية باسم قيم الحرية والحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان، التي أثبتت زيفها العديد من الوقائع والأحداث، وآية ذلك ما تمارسه الشرطة الأمريكية من أعمال قمع وترهيب واعتقالات في حق الحركات الطلابية و أساتذة الجامعات الأمريكية، لمجرد أنهم عبروا عن آرائهم وغضبهم مما يقع من مجازر في حق أبناء الشعب الفلسطيني في غزة على يد قوات الإجرام الصهيونية.
أما السبب الذي دفع السلطات الجورجية إلى تبني مشروع هذا القانون، هو توجسها من النوايا الأمريكية تجاهها، إذ في وقت سابق اتهمت جورجيا الولايات المتحدة الأمريكية بتدبير ثورة داخل جورجيا بين سنتي 2020 و2024. بواسطة المنظمات غير الحكومية الممولة أمريكيا التي تعمل في البلاد، ففي مكالمة هاتفية أجراها رئيس وزراء جورجيا مع مستشار الشؤون السياسية بوزارة الخارجية الأمريكية “ديريك شوله” أعرب كوباخيدزه عن خيبة أمله إزاء دعم الولايات المتحدة لمحاولتي الثورة في جورجيا وكتب بهذا الخصوص على منصة إكس الاجتماعية قائلا: “في حديثي مع مستشار أمانة الدولة، أعربت عن خيبة أملي الصادقة إزاء محاولتي الثورة، اللتين دعمهما السفير الأمريكي السابق واللتين تم تنفيذهما من خلال منظمات غير حكومية ممولة من مصادر خارجية”، مضيفا في نفس الوقت “أنه إذا كللت هذه المحاولات بالنجاح فسيتم فتح “جبهة عسكرية ثانية” ضد روسيا في جورجيا.
ومع ذلك، لم تنف واشنطن الأمر، لهذا لا يستبعد قيامها بذلك، فهي تتقن مثل هذه الألاعيب جيدا، لسببين أولهما مسعاها المحموم الرامي إلى تطويق روسيا من الجنوب عبر جورجيا، وثانيهما عدم رضاها عن الحياد الذي التزمته الحكومة الجورجية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، حيث فضلت النأي بنفسها عن الانضمام للتحالف المناهض لموسكو. سيما وأن ذكرى حرب أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية لعام 2008، لازالت عالقة في أذهان المسؤولين الجورجيين، بسبب الحماقة التي ارتكبها الرئيس الجورجي السابق الموالي للغرب ميخائيل سكاشفيلي بقراره الدخول في حرب مع روسيا رغم فارق القوة بين البلدين، بعد أن أوهمه الأمريكيون بتقديم الدعم له، لكنهم خذلوه بعد أن تركوه يواجه مصيره لوحده، ما جعل البلاد تتعرض لهزيمة نكراء، وفقدان الإقليمين لصالح روسيا، أضف إلى ذلك التحسن الكبير الذي عرفته العلاقات الجورجية الروسية في السنوات الأخيرة، الأمر الذي لم يرق لواشنطن هذا التقارب بين البلدين.
ومن ناحية أخرى، فقد سبق لسكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أوليكسي دانيلوف أن دعا قبل سنتين جورجيا إلى فتح “جبهة أخرى” ضد روسيا، لكن دعوته قوبلت بالتجاهل من قبل تبيليسي حسب ما أورده موقع (News ru) الروسي. وهو ما يعزز صدقية الحكومة الجورجية.
وبناء عليه، يبدو أن الإجراء التشريعي الذي أقدمت عليه السلطات الجورجية له ما يبرره، لحماية أمنها القومي، بعد أن اتضحت المخططات الخفية الأمريكية الهادفة إلى الإطاحة بالحكومة الحالية عبر إشعال ثورة في جورجيا من خلال تلك المنظمات الموالية لأمريكا، وتنصيب حاكم تابع لها لتنفيذ أجنداتها الهادفة إلى إشعال الحرائق في المجال الجيوسياسي الروسي. وَجَرِّ البلاد إلى مَحْرَقَةٍ ثانية أمام القوات الروسية هي في غنى عنها.
ما لا تريد واشنطن فهمه أن سياسة الهيمنة على الشعوب والدول لم تعد مجدية، والأجدر لها أن تعيد النظر في سياساتها الخارجية، لأن التحولات السياسية في النسق السياسي الدولي، جعلها تفقد شيئا فشيئا تأثيرها في الحياة الدولية، ورغم ذلك مازالت تكابر وتعتبر نفسها القوة الأوحد في العالم، والسؤال الكبير هو إلى متى هذا الصلف الأمريكي؟


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة