04 Dec
04Dec

كان سيئ الذكر دونالد رامسفيلد يبرر التدمير الذي حل بمدن العراق بعد أيام من هجوم عام 2003 بـ"أخلاقية الحرب" لأن الحرب وفق وصفه تجلب الحرية! ومن البديهية بمكان القول إنه في هذا الهراء كمن يضع حذاءه في فمه وفق المثل الإنجليزي السائد.
اليوم عادت نفس المفاهيم المفلسة عن أخلاقية الحرب وأكبر جيش أخلاقي في العالم وضياع البوصلة الأخلاقية مع حرب الإبادة التي شنت على غزة وأودت بحياة اثنتين من الأمهات كل ساعة، وسبع نساء كل ساعتين. وفق الأمم المتحدة.
عندما سألت نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية الإسرائيلية، أندرو ميلر، في مؤتمر صحافي عقد عبر تطبيق "زووم" قبل أيام عن استخدام مصطلحات "الأخلاق" و"الحرب الأخلاقية" و"الجيش الأخلاقي". برأيك من يتحمل قتل أكثر من 14 ألف مدني فلسطيني؟ كان لا يجد الإجابة الواضحة إلا بمقدمة طويلة يبررها بأنه ليس فيلسوف أخلاق وهذه الحرب لم تكن تحدث لولا هجوم حركة حماس في السابع من تشرين الأول الماضي!
ذلك ما يريده الداعمون لغطرسة نتنياهو، فتاريخ الصراع والتهجير لا يبدأ من ذلك اليوم، والعنف الإسرائيلي لم يبدأ من ذلك اليوم أيضًا، كما أن حماس ليست المقاوم الوحيد الذي تنتهي مشكلة العنف بمجرد القضاء عليها، أو وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنه "من المهم أن يتم أيضا إدراك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ. لقد تعرض الشعب الفلسطيني لاحتلال خانق لمدة 56 عامًا”.
وجملة "التاريخ الكبير والجغرافيا الضيقة" التي طالما تذرعت إسرائيل بها لمنع حصول الفلسطينيين على حقوقهم تفند ذريعة أن تاريخ الصراع بدأ في السابع من تشرين الأول.
أما الهدوء النسبي الذي ساد خلال العقد الماضي فقد كان مبنيًا على سلسلة من الأوهام: أن الفلسطينيين وتطلعاتهم إلى الحرية يمكن إخفاؤها خلف الجدار العنصري وتجاهلها؛ وأن أي مقاومة متبقية يمكن إدارتها من خلال مزيج من التكنولوجيا والقوة النارية الساحقة؛ وأن العالم، وخاصة الدول العربية المطبعة، قد "سئمت" من القضية الفلسطينية لدرجة أنه يمكن إزالتها من الأجندة العالمية، وبالتالي، يمكن للحكومات الإسرائيلية أن تفعل ما يحلو لها ولا تتحمل سوى القليل من العواقب.
ذلك ما تبدد كليًا خلال الأسابيع الماضية، وأن القضية الفلسطينية التي يراد سحقها بلا أخلاقية دولية أكبر من قطاع غزة وما حل به.
تبرير ما حدث لآلاف المدنيين في غزة بذريعة "الحرب الأخلاقية لحماية النفس" يفتقر إلى الأخلاق بالأساس، ويمكن لأي متابع أن يسرد قائمة من الانتهاكات الشنيعة والمخزية استخدمت فيها مفردة الأخلاق بلا وازع أخلاقي أصلا!
فقد أوقفت لجنة الأخلاقيات في “الكنيست” النائبة عايدة توما سليمان، من “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” لأنها قالت “ما زالوا يصرون على أن الجيش الأكثر أخلاقية في العالم؛ لا يؤذي الأبرياء ولا يهاجم المستشفيات!”
بينما اتهم نتنياهو كل صحافي ينقل معلومات عن جرائم الحرب في غزة بأن “أفعالهم كانت تتعارض مع الأخلاقيات المهنية”!
ولم يجد وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، غير جملة "البوصلة الأخلاقية المفقودة" عندما هاجم رئيس الوزراء الإيرلندي ليو فرادنكار بعد أن عبر عن سعادته بعودة إيرلندية في عملية تبادل الأسرى، لمجرد استخدامه مفردة مفقودة!
فرد كوهين قائلا “يبدو أنك فقدت بوصلتك الأخلاقية وتحتاج إلى التحقق من الواقع!” بينما كوهين نفسه تلميذ متفوق في دروس الكراهية وهو يتحدث عن البوصلة الأخلاقية.
بينما عبرت المحللة مايا ليكر في صحيفة هارتس "الإسرائيلية" عن غيضها من المؤثرين المؤيدين للفلسطينيين ومستخدمي وسائل التواصل من خارج إسرائيل وفلسطين عندما يجدون أن عمليات تسليم الرهائن والتصفيق لحماس وهم يطلقون تحية لأسراهم أمام الكاميرا هو استعراض علني يثلج صدر الإنسانية والأخلاق من قبل مقاتلي حماس.

كوهين مثله مثل نتنياهو، عندما وقف في إحدى ليالي تشرين الأول المظلمة من عام 1995، على شرفة تطل على ميدان "صهيون" في القدس. ورفعت أمامه لافتة كتب عليها "الموت للعرب". ووقف تحته حشد من عشرات الآلاف. في وقت كان إسحق رابين، يدفع من أجل التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. كان ذلك الاحتجاج قد نظمه المعارضون اليمينيون لاتفاقات أوسلو. وفي ذلك الوقت، كان نتنياهو يبلغ من العمر 46 عامًا الزعيم المنتخب لحزب الليكود اليميني. وكان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه وجه جديد متهور في مشهد سياسي منهك لا يزال يهيمن عليه المحاربون القدامى الذين يعلقون شارة العار العنصرية.
منذ ذلك الوقت كان نتنياهو تلميذًا في مدارس الكراهية اللاأخلاقية، فيما هو اليوم لا يتوقف عن الحديث عن المعايير الأخلاقية وهو يرفع لافتة "الموت للعرب".
حتى داعمو "إسرائيل" يعبرون عن عجزهم في تبرير سقوطها الأخلاقي في غزة، فقد عبر السناتور الأمريكي الديموقراطي كريس مورفي عن خشيته أنّه إذا كانت استراتيجية "إسرائيل" وهدفها النهائي هو هزيمة حماس، فإنّ هذه الوتيرة من الخسائر المدنية، التي لها بالتأكيد تكلفة أخلاقية، ستترتّب عليها أيضاً تكلفة استراتيجية.
صحيح أن كل السياسيين يكذبون. يعتبر الكثير من الناس أن هذه الفكرة بديهية لدرجة أنهم يكذبون للدفاع عن الكذب نفسه، لكنهم عندما يعلقون بوضوح شارة الكراهية ويتحدثون عن الحرب الأخلاقية فهذا امتياز سياسي "إسرائيلي".
هنا لا تصبح ضرورة إلى لجنة الأخلاقيات في البرلمانات والحكومات، عندما تتراكم الأكاذيب لتبرر قتل الأطفال الخدج.
لأن شرح معايير الأخلاق لنتنياهو، عندما يتعلق الأمر بقتل الأطفال والأمهات يبدو وكأنه شرح السوريالية لأحمق في مصحات المدارس السياسية!
فكل ما حصل بشأن الاستثمار الزائف للمفاهيم الأخلاقية في حرب غزة، يطبع فكرة مفادها أن الكذب هو مجرد تكلفة ممارسة الأعمال التجارية اللاإنسانية في السياسة. فقد أصبح الفساد الأخلاقي ملحميًا في هذه الحرب.


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة