عادة ما تفرض الصراعات الكبيرة التي تشتعل فجأة ودون سابق إنذار ضغوطاً كبيرة على الدول القريبة منها للحد من ارتداداتها عليها والعمل على احتوائها قدر الإمكان لمنع تحولها إلى أزمة تُهدد الأمن الإقليمي.بالنسبة تركيا، التي تُكافح دبلوماسيتها لاحتواء التصعيد العسكري الإسرائيلي الخطير في قطاع غزة والحد من مخاطر تحوله إلى مواجهة إقليمية، فقد سبق أن واجهت بالفعل ـولا تزال- مثل هذا النوع من الصراعات الكبيرة والمعقدة التي تتفاعل فيها العوامل الذاتية المفجرة لها مع التأثيرات الإقليمية والدولية التي تُعذيها. والصراع في سوريا والحرب الروسية على أوكرانيا مثالان على هذه النماذج من الصراعات التي تتطلب جهداً كبيراً من القوى الإقليمية لاحتواء تداعياتها، وهو ما يفرض عليها في بعض الأحيان إيجاد موازنة دقيقة بين الانخراط العسكري في هذه الصراعات لتقليص حجم المخاطر الناجمة عنها، وبين التفاعل الدبلوماسي مع أدوار القوى الإقليمية والدولية فيها، حتى لو كانت متعارضة معها بشدة، من أجل الوصول إلى أفضل النتائج المُمكنة. أذكر هنا تجربتَي الصراع السوري والحرب الروسية الأوكرانية لأنهما لعبتا دوراً أساسياً في تشكيل السياسة التركية الراهنة إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة. على عكس الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة، والتي ظلّت محصورة في إطار محدود، فإن الحرب الحالية قد تستمر لفترة طويلة وتؤدي إلى انفجار شامل في الأراضي الفلسطينية وربما انهيار الأمن الإقليمي. وهذه الحرب تبدو متشابهة في بعض الجوانب مع الصراع السوري الذي بدأ باستخدام النظام للعنف لقمع الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيله قبل أن يتطور إلى صراع عسكري جذب فاعلين إقليميين ودوليين كثر. في حال قررت إيران دفع حلفائها في المنطقة مثل حزب الله في لبنان إلى الانخراط في الحرب، فإن ذلك سيجر الولايات المتحدة إلى الانخراط العسكري أيضاً لحماية إسرائيل والرد على استهداف قواتها العسكرية المتواجدة في سوريا والعراق. هذا السيناريو سيكون وصفة متكاملة لحرب كبيرة في الشرق الأوسط. وبالطبع فإن تركيا ومصالحها في المنطقة لن تكون بمعزل عن ارتدادات هذه الحرب. من أبرز الخبرات التي اكتسبتها أنقرة في التعاطي مع الصراع السوري أن تفعيل القنوات الدبلوماسية مع الفاعلين المؤثرين مثل روسيا وإيران أدت إلى نتائج جيدة على صعيد الحد من التبعات الإنسانية الكبيرة للصراع وخلقت آفاقاً لفرصة تحقيق السلام في المستقبل. إن الدبلوماسية التركية في الحرب الإسرائيلية على غزة تُركز على حقيقة أن خروجها عن السيطرة وتوسعها إلى مواجهة إقليمية، سيكون لها عواقب هائلة على الأمن الإقليمي.
مع أن أنقرة لم تتردد في إظهار الرفض للهجمات الدموية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، إلآّ أنها اختارت التركيز على القنوات الدبلوماسية كسبيل لتخفيف حدة الأزمة الإنسانية الخطيرة في القطاع وعرضت نفسها كوسيط للمساعدة في الإفراج عن بعض الرهائن الإسرائيليين لدى حركة حماس كخطوة ضرورية يُمكن أن توفر فيما بعد ظروف مناسبة لوقف مؤقت أو دائم لإطلاق النار والبحث عن مسار سياسي يُنهي الحرب. من الخبرات التي اكتسبتها تركيا في التعاطي مع الحرب الروسية الأوكرانية أنها اكتشفت قدراتها الذاتية في العمل كوسيط في صراعات كبرى وتحقيق نجاح في رعاية بعض التفاهمات التي حدت من تداعيات الحرب مثل صفقات تبادل الأسرى واتفاقية الحبوب. والأهم من ذلك أن دور الوساطات أصبح أكثر ترسخاً في السياسات الخارجية التركية إزاء العديد من الصراعات القريبة والبعيدة مثل الصراع الأذربيجاني الأرميني، والتوترات البوسنية الصربية وغيرها وهي تُحاول اليوم أن تُطبقها في الصراع بين إسرائيل وحركة حماس. بالطبع، يُمكن لتركيا أن تذهب بعيداً في معارضة الحرب الإسرائيلية على غزة من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب على غرار ما فعلته في فترات سابقة، لكنّ ذلك لن يُساعدها في العمل بشكل أكثر فعالية للتهدئة وتوفير الاحتياجات الإنسانية الهائلة للمدنيين في غزة وتسليط الضوء على الحاجة إلى معالجة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى انفجار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اليوم وهي غياب أفق السلام العادل والشامل.
ولهذه الغاية، طرحت تركيا بالتوازي مع نشاطها الدبلوماسي فكرة تشكيل دول ضامنة للتوصل إلى تسوية نهائية للصراع وصنّفت نفسها على أنها ضامن للفلسطينيين. وعندما تكون الأولوية المستعجلة وقف إراقة الدماء على الأراضي الفلسطينية، فإن مثل هذه الدبلوماسية تُصبح أكثر حاجة من أي وقت مضى. حقيقة أن هذه الحرب تضغط على القوى الإقليمية الأكثر تأثيراً مثل تركيا التصرف بحساسية ومسؤولية كبيرة لوقف المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، تجعل الحفاظ على مساحة مناسبة للتحرك والتواصل مع جميع الأطراف حاجة إنسانية قبل أن تكون سياسية. لقد أجرى الرئيس رجب طيب أردوغان منذ اندلاع الحرب محادثة هاتفية مع نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، لكنّه تجنب حتى الآن أي تواصل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ويبدو ذلك مفهوماً لأن نتنياهو هو من يُدير فعلياً هذه الحرب. في مرحلة ما، قد يزداد نشاط القنوات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل، لكنّ ذلك مرهون قبل أي شيء بخطوات إسرائيلية تؤدي إلى تهدئة حدة الحرب والتوقف عن الاستهداف العشوائي للمدنيين. وإذا تمادت إسرائيل في هذا التصعيد، فإنه سيكون من الصعب على تركيا وغيرها من دول المنطقة، تجاهل الحاجة إلى تحذير تل أبيب من عواقب هذه الحرب على علاقاتها بدول المنطقة. إن الانخراط التركي الواسع مع الدول العربية في الدبلوماسية الإقليمية لوقف هذه الحرب، يُمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل جبهة إقليمية موحدة ضاغطة على إسرائيل والولايات المتحدة للامتناع عن خطوات من شأنها مفاقمة التصعيد العسكري.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"