شهدت تركيا حالة تضامن وطني وشعبي واسعة مع ضحايا الزلزال الذي ضرب جنوبها وشمال غربيّ سورية في 6 فبراير/ شباط الجاري، واستنفرت مؤسسات الدولة منذ الساعات الأولى لوقوعه، وبدأت بتسخير إمكاناتها، وتسيير فرقها المتخصصة، من أجل القيام بعلميات الإنقاذ والإغاثة. ولم تتأخّر المنظمات المدنية، والأحزاب السياسية، إضافة إلى متطوّعين من الأهالي، في تقديم مختلف أنواع الدعم المادي، عبر تنظيم حملات جمع التبرّعات، وإرسال الحاجات الضرورية من خيام وأغطية وملابس وأغذية، إضافة إلى تبرّع أتراك عديدين بالدم للجرحى والمصابين، وإيوائهم من فقدوا بيوتهم.على المستوى السياسي، لم يتأخّر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الاتصال برؤساء أحزاب معارضة، من بينهم رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنر، ورئيس حزب الديمقراطية والتقدّم علي باباجان، ورئيس حزب الوحدة الكبرى مصطفى دستجي، وحزب اليسار الديمقراطي أوندر أقصقالي، وبحليفه زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهجلي، وخرج معظمهم في اليوم الأول للكارثة بتصريحاتٍ اعتبرت الزلزال لحظة تضامن وطني، واتفقوا ضمناً على رفع شعار: لا صوت يعلو على صوت الزلزال، وعلى توجيه كل الجهود من أجل إنقاذ حياة الناس وإغاثتهم.غير أنه في تركيا، وفي سواها أيضاً، من الممكن أن يوظف كل شيء في السياسة، حتى كارثة الزلزال، خصوصاً مع الكلفة البشرية العالية، فضلاً عن فداحة الخسائر الاقتصادية والمادّية التي تقدّرها أوساط تركية بأكثر من 84 مليار دولار، والتي وضعت تركيا في حالة اقتصادية حرجة جداً، وبحاجة إلى مليارات الدولارات التي لن تسدّدها المساعدات الدولية.
جاء تسييس حدث الزلزال على خلفية سعي كل أحزاب المعارضة والحكومة لتوظيف إرهاصاته وتبعاته لصالحها، وذلك مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في تركيا، حيث أشرف الرئيس أردوغان بنفسه على إدارة عمليات الإنقاذ والإغاثة من مقر هيئة الإغاثة والطوارئ التركية، وإعلان أعداد الضحايا والمصابين، وكيفية سير عمليات الإنقاذ والإغاثة، ووعد ببناء جميع الأبنية التي تهدّمت خلال عام، وتعويض المتضرّرين مادياً، بينما ذهب معظم وزراء الحكومة وقيادات حزب العدالة والتنمية إلى أغلب المدن والمناطق التي ضربها الزلزال، وكذلك فعل قادة أحزاب المعارضة، خصوصاً قادة أحزاب الطاولة السداسية، الذين سارع بعضهم إلى الحديث عن تأخر عمليات الإنقاذ والإغاثة، وتقصير الحكومة، وسوء إدارتها الأزمة، والفساد في ملفات البناء والمناقصات وسوى ذلك. الكارثة التي خلفها الزلزال كبيرة، ومؤلمة، وعجزت إمكانات الدولة التركية وقدرتها عن التعامل السريع معها، بالنظر إلى أنه أصاب عشر ولايات تركية، فضلاً عن مناطق شمال غربيّ سورية، وامتدت آثاره المدمّرة على مسافة 500 كيلومتر، لذلك طلبت الحكومة التركية مساعدات دولية، وفي الوقت نفسه، ركّزت جهودها على أولوية استكمال عمليات الإنقاذ والبحث عن المفقودين، وعلاج الجرحى والمصابين، وتوفير أماكن سكن مؤقت لملايين المشرّدين. لكن، بالنظر إلى هول الكارثة، سادت في البداية حالة من الارتباك في جهود فرق الإغاثة والإنقاذ التي لم تصل بالسرعة المطلوبة إلى جميع أحياء المدن والمناطق المنكوبة، حيث اشتكى ناجون ومتضرّرون عديدون من تقصير الهيئات الرسمية، وتأخّرها في الوصول إلى مناطقهم. وقد اعترف الرئيس أردوغان بحصول تأخير في سرعة الاستجابة، وأرجع ذلك إلى صعوبة الاستعداد لمواجهة كارثة طبيعية بهذا الحجم، فيما ذهب مسؤولون أتراك إلى تأكيد أن الأمر لا يتعلق بالتقصير الحكومي، بل إن هول الكارثة وضخامة قوة الزلزال، وامتداده إلى مناطق واسعة ومأهولة بالسكان هما السبب الأساسي في تأخّر فرق الإنقاذ والإغاثة في الوصول إلى بعض المناطق المنكوبة. أما في جانب المعارضة التركية، فقد حمّل رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، مسؤولية الفشل في إدارة أزمة الزلزال لأردوغان، واتهمه بعدم الاستعداد المسبق لها.
إذاً، تحولت كارثة الزلزال إلى فرصة للاستغلال السياسي من مختلف الأطراف، لكن تبعات الزلزال وإرهاصاته لم تتوقف على طرح ملف الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بل بدأت تلقي بظلالها على ملفات عديدة أخرى، من خلال طرح المعارضة أسئلة عن سرعة استجابة هيئة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، متهمة الحكومة بتعيين شخصياتٍ غير متخصّصة في رئاستها، إلى جانب ضعف استعداداتها، وقلة إمكاناتها، على الرغم من ضخامة الميزانية المخصّصة لها من الدولة، فضلاً عن مليارات الليرات التركية التي تأخذها الدولة من المواطن التركي عبر فرض "ضريبة الزلازل". كذلك سارعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ في الولايات العشر التي ضربها الزلزال، وإلى فتح ملف الفساد في علميات البناء، حيث اعتقلت السلطات التركية أكثر من مائة شخص، ما بين مقاول ومتعهد بناء، وأنشأت مكاتب تحقيق في جرائم تتعلق بالفساد، على خلفية اتهامهم بالمسؤولية عن انهيار مبانٍ سكنية عديدة حديثة، نتيجة عدم تقيدهم بالمواصفات المطلوبة للأبنية المقاومة للزلزال. ومع ذلك، لم تُقنع هذه الإجراءات أحزاب المعارضة التي تريد توسيع دائرة الاتهام ليطاول مسؤولين في الحكومة، ومتواطئين معهم، داخل مختلف إدارات الدولة، على خلفية اتهامهم بالفساد الذي دفعهم إلى الموافقة على ترخيص أبنية مخالفة للمعايير، وكانت السبب في مقتل عشرات آلاف الأتراك وتضرّرهم جراء الزلزال.تبدو الانتخابات العامة الملف الأكثر تأثراً بإرهاصات الزلزال في تركيا، بالنظر إلى اقتراب موعد إجرائها، الذي كان من المقرّر تقديمها إلى 14 مايو/ أيار المقبل، لكن هذا الموعد، بعد الزلزال، بات عرضة لنقاش التأجيل والتقديم بين الحكومة والمعارضة، وذلك في ظل التجاذبات الحزبية، والظروف الاستثنائية التي تمرّ بها تركيا جراء الكارثة. وذهب بعضهم إلى عقد مقارنة ما بين زلزال 1999، وإرهاصاته التي عصفت بحكومة بولنت أجاويد الائتلافية، وأبعدته عن الحكم بعد ثلاث سنوات، وزلزال 2023 وإمكانية انعكاس إرهاصاته على أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بالرغم من أن الأمر مختلف من حيث حجم الكارثة، وكذلك من حيث الظروف والأوضاع في تركيا، لكن في مطلق الأحوال، الأمر يتوقف على قدرة الحكومة التركية على التعافي، وتعويض المتضررين، والخروج من الكارثة بأقل الأضرار.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *