بُتنا نسمع اليوم أحاديث كثيرة تُركّز على سيناريوهات "اليوم التالي"، فيما تستمرّ الفظائع في قطاع غرّة. ويتزامن ذلك مع إدلاء أشخاص، مثل مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، بتصريحات مثيرة للاهتمام مؤخّرًا تشير إلى بدء ابتعادهم عن الموقف المتشدّد الذي تبنّته إدارتهم سابقًا، أي عندما قال الرئيس جو بايدن إنه لا توجد خطوط حمراء بالنسبة لإسرائيل.
وبالطبع، لم يكن من المفاجئ تبنّي الرئيس بايدن مثل هذا الموقف قُبيل عام انتخابي، لكن لكل شيء حدود، فقد أدّى ذلك الموقف إلى مقتل أكثر من 18,500 شخص على يد إسرائيل، بينهم أطفال ونساء ومُسنين وما لا يقلّ عن 56 صحفيًا، لا سيما أنه ترافق مع استخدام الولايات المتحدة لحقّ النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بهدف إفشال قرار يدعو إلى وقفٍ لإطلاق النار، في خُطوة تعرّضت لانتقادات كثيرة.
فما الذي تعنيه تصريحات سوليفان إذًا؟ أولاً، على الرغم من اختيار عباراته العلنية بعناية، يبدو من الواضح أن الغضب العالمي إزاء ما يحصل في قطاع غزة قد أثار مخاوف جدية وراء الأبواب المغلقة في الولايات المتحدة وإسرائيل. ولهذا السبب، يُعدّ من المطمئن إلى حدّ ما أن نسمع شخصًا رفيع المستوى وذي خبرة مثل سوليفان يقول إن مباحثاته الأخيرة مع المسؤولين الإسرائيليين كانت تركّز على الانتقال إلى مرحلة جديدة في الحرب، حيث يتمّ استهداف حركة حماس بشكل محدّد. وأكدّ مجددًا أن حركة حماس ليست الشعب الفلسطيني، وأنه يجب بذل المزيد من الجهود لضمان أن تعكس الوقائع على الأرض نية إسرائيل المُعلنة بعدم استهداف المدنيين.
وتمثّلت النقطة الأهمّ بقوله إن إسرائيل لا يُمكنها أن تحتلّ قطاع غزة على المدى الطويل، مما يُعيدنا إلى الجدل الدائر حول سيناريوهات "اليوم التالي".
أولاً، يجب علينا أن نتذكر ما صرّح به وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان قبل أيام بخصوص هذه المسألة، حيث اعتبر أنه " لا يمكن إجراء أي مناقشات مستقبلية مع استمرار القصف". وبالتالي، يجب أن يبقى التركيز اليوم على التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار. وما يجب أن يكون واضحًا أيضًا هو أن استخدام الولايات لحقّ النقض، في خُطوة أعيد وأكرّر إدانتي لها بشدّة، لا ينبغي اعتباره نهاية الطريق، بل تذكير بضرورة بذل المزيد من الجهود بهدف إقناع الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي بممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل. وتشمل هذه الجهود إعادة صياغة مشروع قرار جديد إذا ما كان حلّ المسألة يتطلّب ذلك.
يجب إذًا أن يبقى الهدف النهائي مرتكزًا على التوصّل إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار وإيجاد حلّ دائم للصراع من خلال إعادة تأسيس دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب وبسلام مع إسرائيل.
لهذا السبب، يجب أن يقترن هوس التحدّث عن "اليوم التالي" بهوس مماثل بالتحدّث عن "اليوم السابق". ونعني بذلك حقيقة أن إسرائيل تحتلّ الأراضي الفلسطينية منذ العام 1967، وذلك بحسب تعريف الأمم المتحدة. وبالتالي، يجب حلّ هذه المسألة لضمان عدم تكرار أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كما الأحداث التي سبقتها، من جديد.
ولا يزال هناك بصيص أمل، على الرغم من التوقّعات القاتمة. فمن اللافت ابداء قيادة حركة حماس استعدادها لقبول حلّ الدولتين، وذلك بحسب ما جاء على لسان أحد أكبر قادة الحركة موسى أبو مرزوق خلال مقابلة أجراها مؤخراً مع موقع "المونيتور". بالطبع، يمكن للمرء أن يقول، أو بالأحرى يتمنّى، لو أن الحركة فعلت ذلك قبل 16 عامًا ودعمت جهود السلطة الفلسطينية من أجل التوصل إلى اتفاق سلام بدل تقويضها والدعوة إلى محو دولة إسرائيل. ففي نهاية المطاف، يُثبت التاريخ أن الأراضي العربية التي حُرّرت وتمّ استعادتها عبر المفاوضات أكثر من تلك التي حُرّرت بالحرب. وتُعتبر الأردن ومصر ولبنان أمثلة واضحة على ذلك.
ويتمّثل التطوّر الآخر الذي يبعث الأمل بإطلاق سراح المجموعة الأولى من الرهائن بنجاح مؤخرًا. وقد شكّلت هذه العملية مصدر طمأنينة إزاء قدرة الدبلوماسية الإقليمية على النجاح في مساعيها. وغني عن القول أنه يمكن لبوادر حسن النية المماثلة أن تُحرز نتائج ملحوظةً. ولهذا السبب، يجب أن يستمر الدعم المُقدّم للجهود التي تبذلها دول مثل قطر ومصر فيما خصّ هذا الموضوع.
ولكن، يبقى السؤال: ما الذي سيبدو عليه مشهد "اليوم التالي"؟ يتوجّب علينا هنا النظر في جميع الاحتمالات الممكنة على الأرض. فمن الواضح أن أحداً لن يقبل باحتلال إسرائيل لقطاع غزة مرّة أخرى مع تركيز الجهود على إقناع المسؤولين الإسرائيليين بتفكيك مستوطنات الضفة الغربية لإتاحة المجال أمام تنفيذ حلّ الدولتين. وبات الموقف العربي/الإسلامي/الفلسطيني واضحًا أيضًا، حيث يرفض بشكل مُطلق أي خطة إسرائيلية تهدف إلى تهجير أو نقل سكان غزة إلى مكان آخر، إذ يجب أن يبقى الفلسطينيون في أرضهم ويجب تجنّب وقوع نكبة أخرى.
كما أن السلطة الفلسطينية لن تقبل أبدًا العودة إلى قطاع غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية. وقد يكون اعتماد فترة انتقالية ممكنًا بمشاركة قوات دولية لحفظ السلام، كما هو الحال في لبنان، إلّا أن ذلك سيتطلب مُعادلةً مقبولةً، حيث يُرجّح أن يشمل جيوشًا دوليةً محايدةً ودولًا عربيةً سبق أن وقّعت معاهدات سلام مع إسرائيل.
ويُحتمل أيضًا أن يُعاد توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت سلطة واحدة، ممّا يتعارض بشكل أساسي مع المبدأ الذي تبنّاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مدى الأعوام الستة عشر الماضية والقائم على توسيع هوّة الانقسامات بين الفلسطينيين.
ويتمثّل الاحتمال الأخير غير المُرجّح بإجراء استفتاء يضمّ جميع الفلسطينيين لمعرفة ما إذا كانوا يريدون العيش في دولة واحدة إلى جانب إسرائيل. ويُرجّح أن يرفض الطرفان هذا الاقتراح، لا سيما أنه، على الرغم من تماشيه مع كون إسرائيل دولةً ديمقراطيةً، سيُلغي مُبرّر وجودها باعتبارها "دولةً يهوديةً".
وكون حلّ الدولة الواحدة خيار غير محتمل، فإن ما لا يساعد حقًا في هذه المرحلة هو تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، حيث كان آخرها وأبرزها تصريحات السفيرة الإسرائيلية في لندن، تسيبي هوتوفلي، التي رفضت بشكل قاطع مفهوم الدولتين خلال مقابلة تلفزيونية.
وما لا يساعد أيضاً مقاطعة المجتمع المسلم في بريطانيا لبرنامج تلفزيوني مؤثّر مثل "بيرس مورجان أنسينسورد".
وفي الواقع، إن المطلوب هو ظهور المزيد من الضيوف العقلانيين القادرين على تقديم حجج مقنعة دعمًا للعدالة. وما علينا سوى الاطّلاع على النتائج التي حققتها مراسلة عادلة ومتوازنة مثل كلاريسا وارد من شبكة "سي إن إن" عندما سُمح لها بالوصول لإعداد تقرير من داخل قطاع غزة بمساعدة مستشفى ميداني إماراتي. إن الحقيقة قوية جدًا. وبالتالي، لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن تحقيق أي شيء من خلال مقاطعة النقاش بدلًا من المشاركة فيه وتقديم الحجج الداعمة لموقفنا.