26 Jan
26Jan

تحتاج المجتمعات في مراحل النموّ والتطوّر والازدهار والاستقرار، وكذلك في حالات الأزمات والحروب والفوضى والانهيار إلى وجود نماذج فاعلة قادرة على إحداث تغيير جذري، مهما اختلفت العوامل والتحديات. 

كي لا نبقى مجموعات متناحرة على أرض الواقع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام المرئي والمسموع، يفترض العمل على إعادة التنشئة الاجتماعيّة المفتقرة هي الأخرى إلى النموذج السليم القادر على الإرشاد والتعاون والتحفيز، وصولًا إلى تحقيق الغايات المثلى. ثمّة ضحالة في النماذج على المستويات كافّة، وإن كانت التربية هي القاعدة التي يفترض الانطلاق منها والبناء عليها في الإصلاح؛ في البيت والمدرسة والحيّ والشارع والمقهى. 

التربية في كلّ مكان، لا تتوقّف حدودها عند باب المنزل، ولا تنتهي عند سور المدرسة، إنّما هي سلوك حياة. وبما أنّها تبدأ منذ ما قبل الولادة فالنموذج الأوّل هو الأهل، ممّا تقدّم تنهض ضرورة العودة إلى الأسرة ومنْحها الأولويّة في عالم متشظٍ. متى استقامت التربية، استقام المجتمع، وأنتج نماذج قياديّة قادرة على توجيه المجتمع وإبداع خطط تنمويّة، وقدّم جيلًا جديدًا ينتفض على الاعوجاج، ويسعى إلى التصحيح، ولا يرضى بالتسويات مهما بلغ الثمن. 

القطاعات الباقية كذلك تعاني من غياب النماذج الملهمة، هذا الأمر ملحوظ في القنوات الفضائية العربيّة (تقديم البرامج السياسيّة مثالًا) تكاد تفتقد الشاشة في هذا الزمن إلى شخصيّات ذات حضور قادر على أسْر المشاهد وإقناعه ودفْعه، بطريقة غير مباشرة، وإن اختلف مع القناة، إلى احترام آرائها وعدم الوقوف منها موقف الخصم.

مسألة” غياب النموذج” لا تختصّ بالتربيّة أو بالإعلام فقط، بل تنسحب على المجالات الفنيّة، وإن كانت شريحة واسعة من الشباب العربي تتذوّق الموسيقى الغربيّة مثلًا، لكن لا يمكن أن ننكر أو نتجاهل التأثير السلبي للفوضى الحاصلة في” المشهد الفني العربي” على الذائقة العامّة. 

المعيار ليس عدد المهرجانات ولا نسبة مشاهدات الأغنية على تطبيقات التواصل الاجتماعي ولا الميزانيّات الضخمة المخصّصة لجمع” نجوم” أو محاولة تسويقها، النشاز هو سيّد الركح بلا منازع. 

الأمر لا يتوقّف عند الصوت منظورًا إليه بالانقطاع عن الوشائج السابقة، فالنموذج الناجح في الغناء هو سلّة متكاملة يدخل فيها اختيار الكلمات، والتلحين، والتوزيع الموسيقي، و...، متى حصل الانصهار الكليّ والاتّحاد بين الأغنية وصاحبها، وصارت علامة دالّة، وكلّ أعماله ارتقت من مجرّد كلمات لتكون إيّاه، ويكون هو الصوت واللحن والكلمة والأداء، يمكن أن نتحدّث وقتئذ عن التجربة النموذج. في المحصّلة، ما نعيشه اليوم هو حصيلة تراكمات من التراخي والوهن والاستسلام أدّت مجتمعة إلى حالة التفكّك التي نشهدها في البنية العميقة للمجتمع العاجز عن إفراز نموذج يُحتذى به. 

ولا انتقال إلى مرحلة جديدة من دون البدء بعمل حثيث وتراكمي قد يحتاج إلى سنوات طويلة، ولكن لا بدّ من نقطة بداية عليها تُبنى عليها سائر التحوّلات. 

كاتبة لبنانيّة

* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة