يعد ميشال فوكو يؤمن بأن المؤسسة التعليمية مؤسسة تعليمية أو تربوية[1]، إنها كانت في ما مضى بهذا الشكل أو بهذا المعنى لكنها وفق فوكو تخلت أو انتقلت من وظيفة التعليم والتربية الى مهمة البحث وحديثه عن الجامعة التي يلقي فيها محاضراته وهي الكوليج دو فرانس، إنها جامعة عريقة تعود في تأسيسها الى القرن السادس عشر الميلادي وتهتم بشكل أولوي بالبحث العلمي ويدرس فيها كبار أساتذة الاختصاص في المجالات العلمية والإنسانية والمحاضرات مفتوحة فيها للجميع بالمجان.
إن فوكو يطرح تصورا جديدا حول وظائف ومهام المؤسسات التعليمية، فالوظيفة التي تقوم بها أو يجب أن تقوم بها هذه المؤسسات هي البحث لكن البحث جزء من وظائف ومهام المؤسسة التعليمية لا سيما الجامعة، إذا ما الذي يقصده فوكو بأطروحته بإناطة البحث بوظيفة ومهمة المؤسسة التعليمية؟
إنه يقترح تنظيم هذه الوظيفة أو المهمة وفق قاعدة أساسية لها هي جعلها نوعا من الهيئة العلمية المنظمة للبحث وهو يقرر هذا الشكل من التنظيم باعتباره (المدرك الفاصل بين المؤسسة والتنظيم) وفق قوله نصا.
إذا كيف يدير الدرس العلمي فوكو؟ إنه ينتقل من مهمة التعليم في درسه في الكوليج دو فرانس الى وظيفة البحث المنظم وفق منهجه الخاص وغير التقليدي أكاديميا، إن مايقوم به هو استعراض بحثه أمام الطلاب في تلك الأكاديمية الفرنسية والذي يبذل في سبيل انجازه ساعات طويلة ومتعة في إعداده وتقديمه كما يقول هو، وهو لا يدعو مستمعيه وطلابه الى تعلمه أو حفظه أو تحصيل المعلومات من خلاله وهي منهجية تقليدية في المؤسسات التعليمية الأكاديمية، وفوكو يحاول تجاوزها أو تجاوزها فعلا وفق ما ينص عليه هو في محاضرة يختار لها عنوانا طويلا ويبدأ بكلمة ما الدرس؟ وعنوانها الرئيسي (درس 7 كانون الثاني، يناير 1976م)،
إنه يؤشر وظيفته في درس البحث هذا أمام طلابه ومتلقيه بوضعه معالم وملامح على طريق المعرفة وشرح الفكرة في البحث وفي درسه وهو يعلم طلابه إنها دروب للبحث وأفكار ومخططات أو نقاط على الطريق أو وسائل ليس أكثر من هذا وفق قوله نصا، وعلى الطلاب أن يفعلوا بهذا البحث ما يشاؤون لأن فوكو ووفق قوله أيضا لا يضع شروطا أو قواعد للاستعمالات في تناول هذا البحث إذا اشتغل الطلاب عملا أو نظرا أو جدلا في هذا البحث.
وهو يفسر ذلك ضمنا إن البحث إذا خرج من يد كاتبه أو مؤلفه فالعلاقة تنتقل بين الطالب أو المتلقي وهذا البحث وتنتهي علاقته بالباحث أو الكاتب، وهو يترجم فكرة موت المؤلف عمليا ولذلك يقول بعد أن يضع البحث لاستعمالات الطلاب (أن هذا الأمر يهمني ولا يهمني في نفس الوقت) ويبرر اهتمامه في أن استعمالات الطلاب في هذا البحث تتصل بما يقوم به هو وفق قوله ولا يبدو مهتما أيضا كونه لا يضع شروطا أو قواعد للاستعمالات في هذا البحث.
واحدة من اهتماماته بالبحث ورغم أنه لا يشير إليها مباشرة كواحدة من اهتماماته تلك والتي يصفها من جانبه بأنها فظة ومتوحشة، هو حرصه أن يكون العدد من الحضور في درسه أقل من العدد الذي يتواجد باستمرار والذي يضيق به المكان وقد عمد الى تغيير موعد درسه حتى تتحقق رغبته تلك وهو ما حدث فعلا.
ويبرر فوكو ذلك الترتيب في درسه باستشعاره التعذيب والملل في استحضار البحث وإلقائه درسا أمام العدد الكبير من الحضور، فهو يصل الى إعداد الدرس بعد عناء كبير وبعد أن يخصص له الوقت الكثير ثم يسأل نفسه دائما كيف بإمكانه يقدم درسه بشكل جيد خلال ساعة واحدة ونصف الساعة بحيث لا يتولد الملل عند سماعه من الحضور ذا العدد الكبير؟ هذا كلام فوكو نفسه، وهي طريقة لم تكن معهودة إقحام المشاعر الشخصية بل والاشكالات الشخصية أيضا في المحاضرات في المؤسسات التعليمية ومن ثم تكون جزءا من المحاضرة سواء في إلقاءها أو طباعتها ونشرها، ولكن إصرار فوكو على إكسابه التعليم بعدا غير تقليدي وغير معهود في الاستعمال الرسمي في التعليم هو الذي يمنحه ذلك الحق وفق تصوره في إقحام الذات في الموضوع أو في اسلوب التعليم المبتكر لديه، وأخيرا يقول لطلابه ومتلقيه (لقد ضجرت قليلا وأريد أن أختم وأضع حدا لسلسة الأبحاث هذه).
نمطية البحث المعاصر وفق فوكو
يؤشر فوكو في مقدمة حديثه أو محاضرته في البحث نمط الأبحاث السائد في المؤسسات التعليمية لا سيما الجامعية، فهي بحوث متجاورة مجزأة غير منسجمة وغير متواصلة لم يصل كل بحث الى نهايته وكذلك هي متفرقة ومتوقفة ولا تعرف الاستمرارية ومكررة، وتلك هي كلمات فوكو التي يختمها بقوله (تسقط في نفس الأخاديد والمواضع والمفاهيم)، ثم يستعرض جملة من مواد الأبحاث والموضوعات المكررة فيها والتي شغلت الدراسات الأكاديمية والإنسانية ويذكر منها تطور الطب النفسي في القرن التاسع عشر الميلادي وما كتب عن السفسطائية من اعتبارات وملاحظات وأفكار والنقد عند اليونان والتحقيق في العصر الوسيط وما كتب عن الجنسانية أو في تاريخ المعرفة الجنسانية[2] ومراقبة جنسانية الأطفال في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين وما كتب عن نظرية المعرفة أو أصل هذه النظرية وهي موضوعات تتكرر من وجهة نظره وبغير رابط واتصال.
ولكن هذا الموضوعات أو مواد البحث تلك هي شاغلة الفكر الأوربي الحديث والمعبرة عن تحديات الثقافة والمعرفة والأزمات بوجه الحضارة والفكر الأوربيين، ولكن طريقة فوكو المستمرة هي قياس الفكر البشري على ما أنتجه وينتجه الفكر الأوربي، وتبقى ملاحظة فوكو في التكرار البحثي والمعرفي التي يشهدها الفكر المعاصر صحيحة وواقعية الى حد كبير جدا.
فالتكرار المعرفي والثقافي لهذه الموضوعات التي أشار إليه فوكو صار نمطا سائدا في كتابات العالم المعاصر حتى وإن تعددت زوايا النظر واختلفت وسائل تناولها، ومع التعدد في منهجيات التناول واختلاف وسائل الفكر العلمية في إطروحات البحث المعاصر إلا أن التكرارية ظلت هي السائدة في النتاجات العلمية الإنسانية المعاصرة حتى صرنا نقرأ ذات الأفكار في كتب ومصادر متعددة لاتأتي أغلبها بالجديد على مستوى الفكرة أو النظرية التي تحدث نقلة نوعية في تاريخ المعرفة وتقلب صفحة جديدة من الفكر البشري، ولعل هذا التكرار يعكس حالة التوقف عن الإتيان بإبداع غير معهود كما حدث مع الثورات الفكرية في تاريخ المعرفة وهي أزمة الفكر البشري المعاصر ولعلها أورثت الملل الذي يتحدث عنه فوكو في إعداد البحث وتحضيره لأنه سيقول ذات الأشياء ويكررها وهو ما لا يقبله فوكو في منهجية البحث لديه.
ولعل هذا التكرار وهذا التوقف عن الإبداع العالي والناقل في حيوزات المعرفة الإنسانية والملل الموروث عنها يُفسر بنسبية العقل ومحدودية العقل البشري الذي بلغ المديات القصوى في كشوفاته ونتاجاته وإبداعاته على طول مرحلة أو تاريخ الوعي البشري ومازال يسجل ابتكاراته وإبداعاته المادية والتقنية، ولكنه في مجالات العلوم الإنسانية لم يعد كما كان أيام الحكماء والفلاسفة والمفكرين الكبار وصولا الى عصر نيتشه وفرويد وأينشتاين التي صارت كل الكتابات والأفكار المعاصرة عيال عليهم.
وينطلق الكتّاب المعاصرون من هؤلاء الثلاثة في بناء أفكار العالم المعاصر ولعل التوقف عند حدود أولئك الثلاثة ومن سبقهم من فلاسفة ومفكري عصر التنوير وعدم الحسم في مهمتهم الفكرية الأساسية في محاولة فهم الإنسان وكينونته وتاريخه وعالمه الطبيعي والروحي إنما مردّه الى قول أبو حيان التوحيدي (ما أشكل على الإنسان مثل الإنسان).
وفي عدم بلوغ البحث المعرفي كنه الحقيقة إنما مردّه الى تصورات ما بعد الحداثة التي أحالت الحقيقة الى خارج الواقع البشري باعتبارها إضفاءات يمارسها الإنسان على الأشياء وفق ظروفه وتاريخه ولا تملك جذرا في الحقيقة أو في الواقع، وبذلك أحالت مابعد الحداثة ذاتها الى العدمية فهي تؤدي الى لا شيء في نهاية كل بحث عن الأصول والجذور وعلاقتها بالحقيقة، ترى هل كان فوكو يميل الى هذه الفكرة في قوله أن البحث بالنتيجة لا يؤدي الى شيء وإن كان يبرر ذلك بأنه نتيجة عدم تلاقي هذه البحوث في تواصل مثمر ومنتج أو أن تلاقيها يكون بشكل مبهم كما يقول.
طريقة فوكو في كتابة البحث
يعد فوكو صاحب منهج مبتكر في البحث وفي التفكير والنظر فهو يعتمد البحث والتنقيب في الأصول التاريخية والجذور الاجتماعية للأشياء المعرفية والفكرية ويتخذ من وسيلة الحفر الجينولوجي طريقا في الوصول الى الجذور التي نشأت فيها الأفكار والمعارف، ويخلص فوكو الى أن الصراعات المتعلقة بالمصالح وسياسات الإقصاء والهيمنة الناتجة عن هذه الصراعات هي التي تشكل الجذور الأولى للمفاهيم والأفكار التي تشكل الحقائق أو الحقيقة عند أقطابها وأصحابها.
وفي منهجية فوكو عناية خاصة بالحاضر لكنه الحاضر الذي ينطلق من مدياته وآفاقه فهو يجعلنا نفكر في أنفسنا عندما نتخذ من الحاضر افقا لما يحددنا[3]، وشروط الحاضر تجعل من المعرفة الى الزوال والتغيير والمحو ضرورة ملحة في الاستجابة الى شروط التغيير الذي يكسب الحاضر بعد التاريخي والعملي وهنا يقول فوكو (أوافق ان يكون خطابي يمحّي مثلما يمحّي الشكل الذي يحمله)[4]، ومن هنا ينظر فوكو الى خطابه على أنه معالم على طريق متابعة البحث ويضع نقاط أمام الباحثين الأخرين أو المتلقين الذين يطالبهم بالمشاركة بالبحث، ويعتمد منهج فوكو المبتكر والخاص به جدا والذي ظل نظريا على استمرارية ما يكتبه أو ما يقدمه من البحث أو ما يضعه من أفكار على المتلقين الذين لهم الخيار من وجهة نظره في ما يذهبون إليه من أراء وأفكار فهو لا يحصر بحثه منذ البدء بنهايات محددة أو غايات من المعرفة يريد الوصول إليها بواسطة كتابته البحث.
إنها من المهم وفق قوله أنها لاتؤدي الى مكان بل هو يؤمن بتغيير وتحويل أفكار البحث التي يقدمها إنه يقدم أجزاء كما يصفها.
لكن هل هذا هو حدود الجواب الذي يقدمه أو فكرة الجواب التي تعتمل في ذهنه؟
لا، وذلك نستنبطه من مثاله الذي يصف به نفسه حال كتابته البحث فحوت العنبر له مسلك خاص به يجعله متقارب مع مسلك فوكو في البحث فهو وفق فوكو يظهر فجأة في البحر ويحدث أثرا خفيفا من زبد البحر ويدع المتلقي يتصور أن كل هذا هو ما عنده، لكن حوت البحر حين ينزل الى أعماق البحر (لا يُدرك ولا يراقب من قبل أحد ويتبع مساره العميق منسجما مفكرا واعيا)، إذا فوكو يختزن أفكارا خاصة به جدا قد عبّر عن أجزاء منها في كتاباته وفي حقول المعرفة التي يتواصل بها مع الأخرين من الطلاب والمتلقين والقرّاء الذي أدمنوا متابعة فوكو باهتمام بالغ وهو لم يقدم كل ما لديه استنتاجا عن مثاله حوت العنبر.
فوكو إنسان يكتنف البحث المعرفي في الأشياء وعن الأشياء وجوده الخاص، إنه سيل من البحث اللا متوقف وهو بهذا يعكس جدلية الوجود الإنساني في سؤاله الدائم والمستمر عن سر وجوده رغم أن فوكو يقطع كل صلة له بالميتافيزيقيات، لكننا نجد تجليات هذا السؤال أو أثاره اللاواعية في البحث في أطوار تكونات الإنسان الاجتماعية والثقافية والتاريخية وجذور مناشئها في الحفريات التاريخية والاجتماعية التي يعتمدها فوكو كأولوية في البحث لديه ومدار أفكاره ونظرياته، وقد وصل في تلك الحفريات الى عدم تأصيل الأفكار والمفاهيم والمعرفة بصورة عامة كحقائق في الوجود إلا بقدر ما يشكلها ويبتكرها الإنسان بذاته وفق ما تفرضه عليه المصالح والمقاصد والظروف وأحوال التاريخ، ولعله من هنا رأى أن الأبحاث المعاصرة لا تؤدي الى شيء باقتران اللاشيئية بالعدمية وأنه لم يقدم أجوبته الكاملة وإنما دعا الأخرين الى مشاركته في البحث للوصول الى النتائج المفاجئة أو الممكنة ويبدو أنه احتفظ بأجوبته الكاملة لنفسه وهو يسكن صومعته الفكرية الخاصة به جدا مثل حوت العنبر.