انطلقت منذ أيام مواجهة متبادلة بين مثقفين سعوديين مقربين من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وإعلاميين مصريين محسوبين على النظام المصري، تخللتها مقالة كتبها رئيس تحرير صحيفة الجمهورية المصرية عبد الرازق توفيق، تفتقر إلى المعيار الأخلاقي أو الميثاق الإعلامي، إلا أنها جاءت عاكسةً عقلية الذين يحكمون المشهد المصري. على أن هذه المواجهة استعادت الحديث عن تباين وجهات النظر التاريخية بين الطرفين المصري والسعودي. صحيحٌ أن الموقف الاقتصادي المصري، وتغلغل الصندوق السيادي السعودي، إلى جانب صناديق سيادية خليجية، جعل لها موضع قدم في المشهد المصري الحالي بتعقيداته المختلفة، وكأحد الداعمين الماليين للنظام، سمح لها ذلك بتوجيه الحديث إلى النظام بضرورة إحداث تغيير في المنظومة الاقتصادية المصرية، وتقليص دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، ما يعني، من الناحية العملية، توسيع نشاط الصندوق السيادي السعودي، في شراء عدة أصول مصرية، إلا أن وجود الجيش سيكون حائلاً أمام هذا الهدف، ما عجّل بالمواجهة بين الطرفين، إلا أن هذه المواجهة جدّدت الحديث عن القضايا العالقة بين الطرفين، ومن بينها قضايا قديمة مثل الإخوان المسلمين واليمن ومحاربة "داعش" والموقف من النظام الإيراني، ثم الموقف الحالي من الرئيس السوري بشار الأسد.
أثار صعود "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر بعد الربيع العربي مخاوف عدة أنظمة خليجية تحرّكت لتحتوي ذلك الخطر الذي يمثل تهديداً حقيقياً لهم، خصوصاً السعودية التي طرحت نفسها، منذ عهد الملك فيصل رحمه الله، ممثلاً للإسلام ومركزاً للسنة في العالم الإسلامي. على أن العلاقة بين المملكة والإخوان المسلمين تخللتها فترات من الشد والجذب أو التوافق والاختلاف، فقد لعب "الإخوان" دوراً مهماً في الستينيات في تحديث القطاع التعليمي السعودي، ساعدهم في ذلك احتواء المملكة إياهم في مواجهة القمع الناصري الذي استهدفهم. وقد سمحت البنية السلفية للمملكة بتعاظم دور الإخوان المسلمين في القطاع التعليمي، وكذلك أثر على تركيبة "الإخوان" وعقليتهم. وعلى الرغم من ذلك التأثير، إلا هناك فترات اختلاف شديدة حدثت بين الطرفين، خصوصاً مع عودة المجاهدين العرب من أفغانستان، وكذلك اعتراض "الإخوان" على استخدام قوة غربية في تحرير الكويت أو السماح للأميركان بغزو العراق. وبلغ الأمر ذروته عندما وصل "الإخوان" إلى السلطة في مصر، ما اضطر المملكة أن تنشئ تحالفاً إقليمياً لمحاصرة الثورات في العالم العربي. وقد لعب الملك عبد الله بن عبد العزيز دوراً مهماً في ذلك. إلا أنه مع صعود الملك سلمان إلى عرش المملكة، تحولت العلاقة مع "الإخوان المسلمين" من المواجهة إلى الاحتواء، ما أثار غضب الجانب المصري الذي أسّس وجوده وشرعيته على محاربة الإرهاب، خصوصا الإخوان المسلمين الذين أدرجهم على لوائح الإرهاب، وأصدر قوانين عديدة تصنف الجماعة إرهابية، بل نسب إليها كل العمليات الإرهابية في مصر، بما فيها التي تحدُث في سيناء. أثارت سياسة الاحتواء التي انتهجها الملك سلمان تجاه الإخوان المسلمين الخلاف بين النظامين، المصري والسعودي، ما سمح بزيادة مساحة الخلاف بينهما. في الوقت نفسه، استحوذت قضايا، مثل محاربة داعش في المنطقة، ومواجهة التمدّد الإيراني على اهتمام المملكة، بينما لم تكن مثل تلك الأمور محلّ اهتمام النظام المصري، ما اضطر المملكة أن تعمّق علاقتها مع النظامين التركي والسوداني لمواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة.
كذلك تأتي الحرب في اليمن من بين القضايا الخلافية بين الطرفين. ففي وقتٍ ترى المملكة اليمن عمقاً استراتيجياً مهماً لأمنها القومي، غير سامحةٍ لأي أحدٍ بفرض سيطرتها عليه أو التدخل فيه، ما أدخلها في مواجهة مباشرة بينها وبين الحوثيين المدعومين إيرانيا، وتشكيلها تحالفا إقليميا وقيادة حرب إقليمية في اليمن، لمواجهة التغلغل الإيراني، فإن النظام المصري يري اليمن جزءاً من أخطائه التاريخية التي ارتكبها الرئيس جمال عبد الناصر، حينما تورط في حرب اليمن التي أثرت اقتصادياً على مصر، وكبّدتها خسائر عديدة، ما جعل كتّاباً عديدين يطلقون عليها فيتنام مصر. جعلت هذه التجربة المؤلمة النظام المصري حذراً من الدخول في أي حربٍ أو إرسال جنودٍ إلى اليمن، وبالتالي، عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، التي يرى أنه لا حدود مباشرة معها أو وجود عداء تاريخي يضطرّه لخوض حرب بالوكالة ضدها. وفجّر الموقف من حرب اليمن خلافاتٍ عديدة بين النظامين السعودي والمصري. وعلى الرغم من الدعم المادي السعودي للنظام المصري، ومقولة "مسافة السكّة" التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بناء على هذا الدعم، إلا أن النظام المصري لم يف بوعوده في ذلك.
تبقى مسألة عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية إحدى أهم نقاط الخلاف بين النظامين السعودي والمصري. يعارض النظام المصري إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، ويعمل على عودته إلى الجامعة، متحجّجاً بأن إسقاط نظام الأسد سيؤدّي إلى تفكيك سورية، بما سيؤثر على مصر وعلى الدولة القومية في المنطقة. ويبدو أن لهذا الموقف المصري من يدعمه في القوي الإقليمية الكبرى، خصوصاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ففي عام 2015، وأثناء القمة العربية، قرأ السيسي كلمة موجهة من بوتين إلى القمة، معبراً فيها عن قلقه من تصاعد العنف في المنطقة، إلى جانب مطالبته برفض التدخل الأجنبي في الصراعات المشتعلة في المنطقة. فجّرت تلك الكلمة التي نقلها الرئيس المصري غضب وزير الخارجية السعودية حينها سعود الفيصل، الذي عبر عن رفضه هذه الكلمة، واصفا النظام الروسي بأنه السبب في المجازر في سورية، ومن العار ادّعاء رفض شيء يقوم هو بممارسته. يتزامن هذا الرفض السعودي للتدخّل الروسي مع رفض بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة باعتباره مدعوماً إيرانياً، ما جعل المملكة تقدّم دعماً مالياً وتسليحياً للمعارضة السورية. يمثل أيضاً الموقف من بقاء النظام السوري أو عودته إلى الجامعة العربية جزءاً من المواجهة الإقليمية بين النظامين السعودي والإماراتي، للسيطرة على المنطقة، وقد اختار النظام المصري الانحياز للنظام الإماراتي.هذه المواجهة بين القاهرة والرياض تعبر عن خسارة نظام السيسي أحد أهم داعميه الإقليميين، وتضع أسئلة عديدة بشأن مستقبل السيسي نفسه وبقائه في السلطة، لكنها أيضاً تطرح سؤالاً آخر عن شخص من سيحكم مصر في الفترة المقبلة، والذي أصبح مرورُه عبر بوابة القوى الإقليمية ضرورة فرضها الواقع الاقتصادي المصري الذي أصبح هشّاً ومرتبطاً بالدعم الخارجي، خصوصاً الخليجي.