إذا سألتْ خبيرة الماورائيات، فيونا بروم، السوريين بعد عدّة سنوات ما إذا حضر بشّار الأسد قمة جدّة عام 2023 أم لا، قد تجد من يقول لها إنه لم يفعل، ستبتسم فروم لهم بذاك اليقين اللذيذ، ستقول أيضاً: هذا تأثير مانديلا عليهم، ثم ستضيف أسماءهم إلى موقعها الإلكتروني الذي أنشأته عام 2009 لهذا الغرض، وقد اهتدت حينها إلى صياغة ما يُعرف بالذاكرة الكاذبة على حياة الناس. فعلت ذلك بالمصادفة، حين وجدت أنّ كثيرين يعتقدون أن نيلسون مانديلا قد فارق الحياة وهو في سجنه في ثمانينيات القرن الماضي، وأنهم شاهدوا جنازته، وسمعوا خطاب زوجته المؤثر وقتذاك، في حين صار مانديلا أول رئيس من أصحاب البشرة السوداء لجنوب أفريقيا عام 1994 بعد خروجه من السجن، وتوفّي عام 2013 عن عمر قارب 95 عاماً.قبل هذا، وفي 1974، كانت الباحثة في علم النفس الإدراكي في جامعة واشنطن، إليزابيث لوفنتس، قد خلُصت، بعد دراسة ميدانية موسّعة، إلى أن الذاكرة البشرية ليست كاميرا توثيقيّة عالية الدقة تسجّل الأحداث بثباتٍ مطلق، وإنما تبدو أشبه بموسوعة ويكيبيديا، بحيث تتيح لأيّ كان تدوين موضوع فيها، ثم يمكن لآخر أن يعدّل عليه بعد حينٍ من الزمن. وتتفق هذه الرؤية كثيراً مع تعريف عالم النفس، والأستاذ لدى جامعة هارفارد، دانيال شاكتر، حين يعتبر أنّ الذكريات هي مجموعةٌ من ردود الفعل العاطفية، وأشكال من الإدراك البصري والسمعي، بحيث تعكس موقفنا من حدثٍ ما، وليس بالضرورة أن تكون سجلاتٍ موثوقة الدلالات لما حدث فعلاً.
ويبدو من الصعوبة بمكان على السوريين اعتماد نموذج الواقع المرئي والمحسوس بصيغته الماثلة أمامهم خلاصة منطقية يبصرون مصائرهم المتلكّئة من خلاله، وقد تُنصفهم الطبيعة أكثر إنْ وقعوا تحت تأثير مانديلا مثلاً، أو وقع أغلبهم أو حتى بعضهم تحت سلطة هذا التأثير، وربما يُغرمون به. وبفلسفته المُلغزة التي تُجلُّ ترميز الواقع أكثر من كونها تكتشفه بحذاقة، أو تشفق عليه. حينها سيكون بإمكانهم رمي بعض من واقعهم الدراميّ داخل قنوات تصريفٍ ملائمة تزيح عن كاهلهم الجزء الأكثر قتامةً وبؤساً منهم. ثم قد تجد بروم مِن السوريين مَن يؤكّد لها بعد حين من الزمن موتَ بشار الأسد عام 2013 برصاصة أطلقها عليه حارسه الشخصيّ الإيرانيّ مهدي اليعقوبي، لكن رأس النظام السوري لم يمت في حينها، ربما قتلته فقط حبكة تلك الإشاعة القديمة، أو ربما تسمع بروم من سوريين آخرين أنه مات بالفعل داخل أروقة مشفى الشامي الشهير في دمشق بعد إصابته بجلطة دماغيّة عام 2017، وهناك من قرأ خبر وفاته على صفحات صحيفة الديار اللبنانية المقرّبة من لسان حزب الله، لكن بروم لن تجد ما يثبت صحّة هذه الرواية سوى خبر نشرته صحيفة المستقبل اللبنانية في مطلع ذاك العام، تشير فيه إلى إصابة رئيس النظام السوري بجلطة دماغية، من دون أن تتسبب بوفاته، بالرغم من إصابة بعض السوريين بمثل هذا اليقين في وقت لاحق من حياتهم. ستلاحظ بروم ذلك بيسرٍ وبلا مشقة، وستلاحظ أيضاً كيف أن سوريين غيرهم يظنّون أن بشار الأسد قد مات لاحقاً، وبعد مضي عقدٍ من السنوات على بدء الثورة على نظامه، وتحديداً أمام جامع الحسن في حيّ الميدان الدمشقي في أثناء دخوله لتأدية صلاة عيد الفطر عام 2022. ستجد بروم أيضاً أن ثمّة سوريين يسكنهم مثل هذا اليقين، ستضيف قصصهم إلى موقعها الشهير بلا تردّد، وهي تعلم أن تلك الحادثة مجرّد إشاعة ذات منبت إعلامي إيراني، كان مفادها فقط تعرّض بشار الأسد لمحاولة اغتيال في حينها.
ثمّة واحدة على الأقل من الاجتهادات الأكثر إثارة في تفسير ظهور الذكريات الجماعية الزائفة، أو ما سمّته فيونا بروم تأثير مانديلا، تلك التي تستند إلى فرضية وجود الأكوان الموازية، وتبحث في الأثر الناجم عن تفاعلها مع بعضها بعضا، بحيث تفترض إمكانية انتقال البشر من واقع إلى واقع آخر، أيّ من كونٍ إلى كونٍ موازٍ آخر من دون الشعور بثقل هذا الانتقال، الأمر الذي يفسّر احتفاظ بعض الناس بذكرياتٍ قد يكون مصدرها كوناً آخر غير الذي هم فيه، وبقيت تلازمهم في وجودهم الراهن، وكأنهم عاشوها بيقينٍ خاص يلازمهم. فإذا استمر بشّار الأسد في الحكم 12 عاماً بعد اندلاع الثورة ضدّه، وتمكّن من حضور القمة العربية في جدّة هذا العام، فليس بالضرورة أن يحدُث الأمر ذاته في كونٍ موازٍ لكوننا هذا، بحيث يصير جائزاً القبول بصحة الفرضيات التي تشير إلى هلاكه في أكوانٍ أخرى موازية للكون الذي نعيش فيه حاليا، وفي إحداها يكون قد قُتل بالفعل على يد حارسه الشخصي الإيراني عام 2013 ، وفي كونٍ موازٍ ثانٍ يكون خبر موته بالجلطة الدماغية عام 2017 مؤكداً، ولن يكون بمقدور جورج وسّوف ولا اللواء اللبناني جميل السيّد نفي صحة هذا الخبر مهما غرّدا على "تويتر". وفي كونٍ موازٍ ثالث يتم اغتياله بالفعل قبيل صلاة عيد الفطر من العام 2022 بدقائق قليلة، أمام جامع الحسن في منطقة الميدان في دمشق.سيريحنا أستاذ علم النفس في جامعة بليموث البريطانية، تيم هولينز، أكثر من سواه في فهم تأثير مانديلا علينا، وارتباطه الوثيق بإنتاج ذكريات لم تحدُث واقعياً، وكذلك بنسيان المصدر الحقيقي للذكريات، ثم بالميل المفرط صوب الخيال وتعظيمه على الواقع الفعلي، ولعلّ تشريح بنية الذاكرة الجمعيّة للسوريين في العقد الماضي لن تقود سوى إلى تتبع الألم من مصبه إلى منبعه كوجهة وحيدة عكسيّة لا يمكن الحياد عنها، فتلك ذكرياتٌ يحفّها الوجع من كلّ الجوانب، وبمقدورها أيضاً أن تدهس الجميع خارج شرنقة تكوينها، من دون أن يخفف تباين الموقف السياسي للسوريين من بشار الأسد ونظامه الحاكم من حدّتها بشيء، فالموالون تنهرهم على الدوام ذاكرة البرد والعتمة والجوع، وقد قادَها نظام متعجرف لا يشبع من إهانة الجميع، والمعارضون تسكنُهم ذاكرة الاعتقال والتهجير والإبادة الجماعية، وقد قادها نظامٌ بشع فاق عداؤه المجتمع حدود الوصف والتخيّل. وفي الحالين، اندملت ملامح السوريين تحت ركام هائل ومرعب من البرمجة العقلية والنفسية، يعلن أحد وجوهها أن تكرار أي ثورة ضد هذا النظام ستلاقي المصير ذاته من الإجرام والإنكار والتخلّي والخذلان، ووجه آخر لتلك البرمجة سيجعل قهر هذا النظام وقتله مع رموزه في الخيال أمراً ممتعاً للغاية. ويكاد المرء يجزم بأن سوريين كثيرين سيقعون تحت تأثير مانديلا بعد سنوات، لكن وفي آن قد نخشى من أن يستنطق بشّار الأسد تأثيراً جديداً يفوق جموحه تأثير مانديلا، ويكون من نوع مختلفٍ لا يمكن فهمه أو تحديد معالمه، لكنه كفيلٌ بأن يجعل العالم يعيش الصداع والهلوسة على أكمل وجهٍ ممكن.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *