كان جوزيف (يوسف) ستالين في التاسعة والعشرين من عمره، عندما وُلد نجله الأكبر ياكوف دجوغاشيفلي، لكن انصرافه إلى النضال من أجل إسقاط القيصرية، وربما وفاة زوجته الأولى والدة ياكوف، إضافة إلى أسباب أكثر تعقيداً ذات صلة بقسوته، جعلته يترك الفتى يكبُر بعيداً عنه. والأسوأ أن يُعامله بقسوة بالغة فيما بعد، ما دفع الشاب الذي وجد نفسه عندما كبر على الجبهة مع النازيين، ثم أسيراً بين أيديهم، إلى الانتحار. وهذا السيناريو الأرجح رغم عدم استبعاد الاحتمال الثاني، وهو قيام النازيين بتصفيته، بعد رفض والده مبادلته بمارشال نازي كان في قبضة الاتحاد السوفييتي آنذاك.
ليس ستالين روبرت دي نيرو أو آل باتشينو، فالأخيران ممثلان كبيران وولدا في نيويورك. وإذا كان ثمّة ما يجمعهما، أحدهما أو كليهما، مع ستالين، فهو أن دي نيرو ولد في العام نفسه الذي انتحر (أو قتل فيه) نجل ستالين الأكبر. هناك فكرة اختبارالأبوّة الذي أخفق فيه ستالين بجدارة، بينما يخضع له الممثلان الشهيران حالياً، فكلاهما أنجب أو على وشك استقبال طفل جديد خلال فاصل زمني لا يتعدى الشهر، وكان يمكن ألا يعني ذلك شيئاً لأحد سواهما، لولا أنهما كبيران في السن، ومتأخران أكثر مما يجب على الإنجاب واختبار الأبوّة، فروبرت دي نيرو في التاسعة والسبعين، أما باتشينو ففي الثالثة والثمانين، أطال الله في عمريهما.
لنفترض التالي، وقد يكون هذا مجحفاً؛ فإذا كان ستالين قاسياً مع نجله، وقد أنجبه في ذروة شبابه، فهل ثمّة قسوةٌ "محتملة" في أن تنجبَ وأنت في سنٍّ متأخّرة؟ أظن أن سؤالاً افتراضياً كهذا كان في بال آل باتشينو عندما أجاب عن أسئلة الصحافيين بالقول إنه سيستمتع ما استطاع بابنه الذي ما زال في رحم صديقته نور الفلاح، الأميركية من أصل كويتي. ولكن إذا حدث شيء ما، فإن المولود القادم سيكون تحت وصاية رفيقه دي نيرو، والأخير ليس أصغر منه بكثير.
وأظنّها فكرة محزنة، وأقرب إلى "أوديب" معكوساً، أن تعرف أنك ستترُك طفلاً صغيراً وراءك في هذه الحياة، فرغم تطوّر المجتمعات وتوافر شبكات الحماية لأطفال آل باتشينو وروبرت دي نيرو وأشباههما، إلا أن ذلك لا يعوّض وجود الأب فيزيقياً وعاطفياً في حياتهم، إضافة إلى المشكلات الطبية والسيكولوجية التي قد يعاني منها أطفال كبار السن. ولروبرت دي نيرو فيلم محزن عن غياب الأب عن الأبناء وغيابهم عنه، وهو "الجميع بخير" من إنتاج 2009 ، وأداء دي نيرو فيه أعلى من مستوى الفيلم نفسه، ويقدّم فيه دور الأب المتفاني من أجل أبنائه، والذي يرغب بعد تقاعده بالاجتماع بهم كلهم، فيتعذّر الأمر عليه وعليهم، فيقرّر السفر إليهم حيث يعيشون، ليكتشف إخفاقاتهم في حياتهم وعجزه عن التدخّل من أجلهم، فإذا كان هذا شأن أبناء رجل كبر أطفاله معه، فماذا يكون وضع طفلته "جيا" التي أنجبها وهو في التاسعة والسبعين؟
نقرأ كثيراً عن الذين بنوا أساطيرهم في عالم المال والسياسة، وكيف أن الشعور بالذنب فتك بهم عندما كبروا في السن، وحققوا كل ما حلموا بها، لأنهم حُرموا فرصة الحياة الثمينة بأن يكبروا مع أبنائهم ومعهم، وكيف أن طريق النجاح لا يتسع كثيراً لعربة تمتلئ بالأطفال إلى جوار آبائهم. وذلك ما أظنّ أنه سيحدُث في نهاية المطاف، وإنْ معكوساً، لطفلي دي نيرو وآل باتشينو اللذين سيكبران من دون أن تتاح لهما فرصة رفقة الأبوين، ونظرات عينيهما إلى أقدامهم على الأقل التي ستكبر أحجامها، وأطوالهم التي ستزداد أمام المرآة التي لا تعوِّض في أي حال هزة الرأس الفخورة للأب وهو ينظر إلى أبنائه.
قد يقال إن تلك مثالية مفرطة، فثمّة آباء قساة وأنانيون قد يدفعون أبناءهم إلى تمنّي اليتم، لكن العلاقة بين الآباء والأبناء أعقد من تسطيحٍ كهذا، وأظن أن آل باتشينو يعرف ذلك على الأقل بصفته مايكل كورليوني (دورُه في فيلم العرّاب)، حيث على الأب أن يدفع ابنه برفق ليأخذ مكانه ليجري قتل الأب رمزياً بالتوافق، لا بالدم: أوديب دائماً وإنْ بتنويعات معاصرة.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *