في الآونة الأخيرة كثيرًا ما نشهد موظفين مخضرمين في مؤسسات عراقية عدة يعملون في وظائفهم على مدى عشرات السنين ويُحالون على التقاعد من غير أن يُثّقوا ما درّتهُ عليهم التجربة والخبرة في شكل كتابات ومؤلفات يُمكن أن تُلهم الأجيال اللاحقة، وربما تُصبح هذه المؤلفات مراجع في الجامعات والمؤسسات الحكومية يُمكن أن تُترجم إلى سياسات. وهذا لا يعني أن الجميع ينطبق عليهم ذلك الحديث، بل نتحدث عن قلّة ممن يوثق تجاربه وخبراته كتابيا وكثرة ممن ابتعدوا عن جانب التأليف والكتابة لأسباب قد لا يكونوا طرفا فيها.
هذا الأمر لا ينطبق على تجربة الأستاذ فاضل الچالي الذي وظُف تجربته وعمله في تأليف هذا الكتاب، وقد استحضرت ذاكرتي كتاب قرأته قبل عدة أشهر حمِل عنوان: (أربعون عامًا في السلك الدبلوماسي العراقي) للدبلوماسي المخضرم وهبي القرغولي يُقدم فيه رحلة ممتعة لعمله الدبلوماسي على شكل مُذكرات ممزوجة بدروس عميقة في العلاقات الدولية وفن البروتكول الدبلوماسي عبر تجارب واقعية وعملية لما يمر به الدبلوماسي أثناء خدمته الوظيفية.
لم يحزم الاستاذ فاضل الچالي حقائبه ليحط رحاله في أكبر بلد مسلم إندونيسيا بوصفه دبلوماسيًا عراقيًا فحسب، بل خاض تجربة الباحث الجاد وهو يُنقب عن ظاهرة خطيرة أجتاحت بلده العراق والكثير من بلدان العالم.
الدبلوماسي الأنيق الأستاذ الچالي قرر أن يُركز أهتمامه كما ذكر: "على متابعة ما تقوم به الجماعات الإرهابية من جانب، وما تُصادِق عليه الحكومة الإندونيسية من التشريعات القانونية الخاصة بمكافحة الإرهاب من جانب آخر" ومن رحم ذلك ولِد كتابه (تجربة إندونيسيا في مكافحة الإرهاب) الصادر عن (دار الرواق في مركز رواق بغداد للسياسات العامة 2023)
الكتاب دراسة جادّة لتجربة إندونيسيا في مكافحة الإرهاب، ويعرض بشكل دقيق التدابير الوقائية: القانونية والأمنية والتوعوية التي اعتمدتها الحكومة في مواجهتها للإرهاب ومنع انتشار أفكاره، ويذكر المؤلف أنه درس أهم التيارات التي يُصطلح عليها ب(الجهادية) المُتطرفة في إندونيسيا، لا سيما المُرتبطة بتنظيم داعش الإرهابي.
قسّم المؤلف الكتاب على ثلاثة فصول: تناول في الفصل الأول مفهوم الإرهاب وأشكاله، في حين درس في الفصل الثاني التيارات الجهادية في إندونيسيا، في حين خُصص الفصل الثالث لبحث التدابير الإندونيسية في مكافحة الإرهاب.
يكشف الكتاب النقاب عن الحجم الكبير للجماعات الإرهابية في دولة مثل إندونيسيا، مستعرضا الأسس الفكرية والعقائدية والسياسية التي تستند إليها تلك الجماعات وأبرز قادتها والعوامل الرئيسة المؤدية لظهورها ونشاطاتها الإرهابية داخل الأراضي الإندونيسية.
مثّلت نفجيرات بالي عام 2002 نقطة تحوّل في التاريخ الإندونيسي لمكافحة الإرهاب، لذا فإن إندونيسيا أصبحت بحاجة إلى استراتيجية سليمة لمواجهة الإرهاب، لذا شرّعت في وضع الإطار العام لسياسات وتدابير العمل لمكافحة الإرهاب في البلد.
يذكر المؤلف أن إندونيسيا اعتمدت في مواجهة التطرف إلى أتّباع نهجين: أحدهما نهج (صارم) متمثل باتباع تدابير قانونية وأمنية عبر استخدام القوة من خلال وحدة مكافحة الإرهاب والجيش، والآخر نهج ناعم لمكافحة الإرهاب عبر إشراك المجتمع والمنظمات لإعادة تأهيل المتطرفين والإرهابيين، وإدماجهم في المجتمع عن طريق منظمات المجتمع المدني.
في السبيعنات مارس نظام سوهارتو سلسلة من الاعتقالات الواسعة ضد بعض الجماعات الإرهابية من خلال ذراع عسكري يهيمن عليه الجيش مدعوم بغطاء قانوني يسمى قانون مكافحة التخريب لعام 1963.
بعد انهيار هذا النظام عام 1998 وبدأ مرحلة الإصلاح والديمقراطية، ونتيجة لضعف هذه المرحلة وخاصة بعد إيكال مهمة مكافحة الإرهاب بالشرطة المحلية، شهدت إندونيسيا تناميا واضحا للجماعات الإرهابية توج ذلك بتفجيرات بالي عام 2002 التي راح ضحيتها 202 شخصا وجرح أكثر من 209 آخرين.
هذا التفجير أعطى مؤشرا واضحا بأن هنالك خللا تشريعيا لمعالجة الإرهاب، لذلك صدرت سلسلة من التشريعات لمكافحة الارهاب في الاعوام 2002 و 2003 و 2018 وعدد من التشريعات واللوائح التي هدفت بمجموعها لمعالجة الخلل التشريعي في التعاطي مع الإرهاب.
إلى جانب ذلك أصدرت الرئيسة الإندونيسية (ميجاواتي) تعليمات رئاسية بإنشاء مكتب تنسيق لممافحة الإرهاب، واحدة من مهامه الرئيسة صياغة سياسة واستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب.
وأصدرت الحكومة ست مبادئ يجب أن تنفذها مختلف المؤسسات الأمنية في جهود الوقاية ومكافحة الإرهاب تمثلت هذه المبادئ بسيادة القانون وعدم التمييز والاستقلال والتنسيق والديمقراطية والمشاركة.
في عام 2003 انشأت الشرطة الوطنية قوة نخبوية لمكافحة الإرهاب سميت بالمفرزة الخاصة 88 ونجحت فعلا في كسر وتعطيل الخلايا الإرهابية في إندونيسيا وأصبحت مؤسسة عالية الكفاءة. ليس هذا فحسب بل تم إنشاء مدرستين للاستخبارات لتعزيز المهارات التحليلية للضباط العاملين، وتدريب موظفين يُطلق عليهم (موظفو الحالة) على التفكير النقدي والتنبؤ الاستراتيجي.
بعد ذلك تم إنشاء الوكالة الوطنية لمكافحة الإرهاب عام 2010 وأوكلت إليها مهمة صياغة السياسات والبرامج الوطنية وتنفيذ السياسات في مجال مكافحة الإرهاب.
لم تكتفِ إندونيسيا بالإجراءات القانونية والأمنية كوسائل لمكافحة الإرهاب، بل عَمِدت إلى استخدام وسائل توعوية "ناعمة" غرضها تحصين المجتمع من الإرهاب وتم اعتماد ثلاث عناصر رئيسية في تحقيق الهدف وهي: الحماية، حماية الأهداف ذات الأهمية الكبرى من التهديدات الإرهابية. مكافحة التطرف عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي عبر استخدام معدات تقنية عالية الكفاءة. ازالة التطرف عبر منع تبني الأفكار الراديكالية ويعتمد على عدة علوم اجتماعية لتنفيذ هذا المبدأ.
كما لم تُهمل إندونيسيا البعد الدولي في مكافحة الإرهاب بوصف الأخير ظاهرة عالمية ومثار اهتمام جميع دول العالم، لذلك عملت على التعاون مع منظمة الأمم المتحدة وصادقت على 9 اتفاقيات وبروتوكولات لمكافحة الإرهاب، وعملت على تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب عبر مذكرة تفاهم واتفاقية تم التوصل إليها في دبي بمشاركة هونج كونج. كما فتحت إندونيسيا آفاق التعاون مع المملكة المتحدة والاتحاد الأوربي واستراليا والصين لمكافحة الإرهاب. فضلا عن التعاون مع بعض البلدان العربية. لا سيما الجانب العراق حيث عرضت إندونيسيا على العراق توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب لتعزيز الجهود الاستخباراتية إلا أنها لم ترَ النور حتى إصدار الكتاب.
وخلاصة القول: يُقدم الكتاب جهود قيمة في إلقاءه الضوء على تجربة غاية في الأهمية لمكافحة الإرهاب، هذه التجربة الإندونيسية لها دلالة عملية في كيفية التعاطي مع ظاهرة خطيرة كالإرهاب وكيف أن حكومة جاكارتا سعت حثيثا لاستخدام أساليب متنوعة لمحاصرة الإرهاب وما زال الوقت طويلا بالنسبة لها للقضاء التام على الإرهاب والجماعات الإرهابية لأن هذه الجماعات تستغل حالة الفراغ السياسي وهشاشة الأمن وتردي الأوضاع الاقتصادية والتخلف والجهل وفساد النظام لتنمو وتترعرع وتطرح نفسها بديلا يعتق المجتمع من جميع مشاكله ويشفيه من أمراضه. وإذا بها تفتك بالمجتمع وتزيد معاناته بمجرد أن تتمكن من الوصول للسلطة.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *