10 Jun
10Jun

أشهد أن (س) كان مناضلاً، رغم أنه لم يخض ولو واحدة من المعارك ذات اللهيب، لكنه كان على أية حال في معسكر النضال الوطني. تعرض للاعتقال مرة واحدة ولمدة قصيرة… ثم أكتشف أن ثمن أن تكون مناضلاً من فئة التصدي للأمواج العاتية مسألة متعبة، ثم مكلفة أبضاً، وأكتشف أن بالإمكان دون مشقة، أن تكون ثوريا لفظياً نهاراً، وفي الليل مسطولاً لا تعرف الألف من العصا …! أما إذا ترك البلاد ومارس الثورة بالناظور كالكتابة المجانية على الجدران، فأحلي وأطيب ..!
ولما ألتقيته آخر مرة(بعد فراق طويل)، اكتشفت أنه قد تعفن لأخر درجة ..! وأنه لم يعد سوى بقايا وأشلاء إنسان، وأنه لم يعد قادر على رفع مجرد سبابته للاحتجاج .. أو ليقل على الأقل « والله ما أدري … آني تعبان ونعسان … هسه الساعة بيش بالله .. ! «.
قال لي بعد أن تقابلنا بعد 20 عاماً: «ضرغام ما هي الحقائق التي اكتشفتها خلال رحلتك الطويلة»
قلت له « أن القومجية هي طريق التحرر الوطني …»
فحدق بي لثوان، وإجابتي هي مسمار … وتأكد أني أريد له توفير وقت وجهد محاضرة لم يعد لها معنى .. لم يعد هناك داع لنتحدث بصورة جدية … فهو قد تحول إلى إنسان كوزموبوليتي بالكامل، لا وطن لا قومية، ولا أمه ينتسب لها، ولا حتى مجتمع باب الشرقي الأممي ومقاهينا الصغيرة، ولا حتى أسرته، لم يعد يهمه شيئ بالمطلق إلا توفير ثمن « السيكارة « وربع قنينة خمر (كحول) من النوع الرديئ، ثم يلف رأسه وينام، ليستقبل نهار جديد … ولم تعد لدية أي فوارق بين أي يوم من أيام الاسبوع….
ولكن إن أردتم الحق، فإن بدايات انهيار هذا الرجل قديمة، لكنه كان يتآكل ببطء، وقيمه تنهار الواحدة بعد الأخرى، يبحث عن حجج محترمة ليبرر هزيمة غير محترمة، في اكتشاف أصالة الأشياء .. لم تكن هناك فائدة لأذكره بمناقشاتنا الطويلة، وأنا أذكر له أن يستحيل اعتقال الضوء، واغتيال الأمل والمستقبل ..وأن قوانين التطور صحيحة، ومن الهزائم نصيغ طريق المستقبل وكثرة الأعداء تعني اننا على صح …. ونحن كنا لا نبيع أرواحنا، بل نهبنها للملايين من الناس الطيبين … وهو موقف شريف كان وما يزال صحيحاً بكافة المقاييس ….!
أجابني ونحن نتصفح كتابا مصورا جميلاً في المكتبة (الشرق في ريشة الرسامين الغربيين) مجلد كبير الحجم فخم بطباعة ممتازة يضم عشرات اللوحات الملونة الجميلة لكبار الرسامين، الكتاب بأختصار كان خلاباً، ولكننا لم نكن نملك ثمنه .. فقال لي ساخراً « أنظر هذه صور لديلاكروا .. أنت كنت تحبه ..» أجبته أني فقدت الهوس الشرقي بامتلاك ما أهوى وأحب …. ومن تلك، الشرقي لا يعرف أن يستمتع بزهور الحدائق العامة، يريد الحديقة في بيته ..!
قلت له « تعال أدعوك لشرب قهوة « ايسبريسو « كما كنا نفعل في الأيام الخوالي «
لم يكن قادرا على لم شعث نفسه التائهة، لم يكن قادرا على أتخاذ حتى قرار الجلوس في مقهى .. ضائع بصورة تامة، هذا الذي كان يشع ثقافة ومعرفة. مالذي دمره : البطالة، واليأس، والكحول ولكن الاهم هو فقدان البوصلة … وأشياء أسخف ….. وكوارث زمن العولمة الحقيرة «.
سأكف عن الكتابة …. لأنني معبأ بأنفعالات … سأخرج لأتنسم شيئا من الهواء البارد


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة