27 Apr
27Apr

كعادتي أسأل عن من ربطتني بهم علاقات حميمة من مختلف الاعمار، ومنهم صديقة من كبار السن سألتها عن حالها وأحوالها، فقالت انني في أحسن أحوالي بعد ان شربت كأس الرضا بما قسم الله لي في الحياة. 

فقلت لها هل صحتك جيدة؟ حمدت ربها وشكرت قائلة، ان الزمن كعادته يحفر ذاكرته وحوداثه فينا، فيترك بصماته من الآلام الجسدية والضعف والوهن وأحيانا العجز عن أشياء يومية بسيطة كنا ننجزها في الشباب بكل سهولة ويسر. 

فقلت لها كم يؤلم ذلك؟ سارعتني في البداية كنت أتحسر على قوة الشباب التي غادرتني، وأتألم كثيراً من شعوري بالعجز وضعف الحركة وحاجتي للآخرين ومساعدتهم في بعض الاشياء، أما الآن فقد هضمت التجرية بعد ان أيقنت انها من فعل الله وحكمته في خلقه وهي اننا بشر فينا من عوامل النقص الكثير، ولولا هذا النقص ما اكتملت دورة الحياة بنا على الوجه الاكمل الذي يرده خالقنا. 

فهذا النقص قد تكمليه انت لي بانجاز عمل لي او تسارعي بأخذي للمستشفى للعلاج، أو ترسل لي كهربائي لاصلاح العطل، وتكملين نقصي وعجزي، فتؤجري من الله وتتحقق المودة والرحمة ويشيع الحب بالكون. 

قلت لها كيف تدركين الحكمة مع الشعور بالضعف والعجز؟ قالت كنت بالشباب اعتمد على نفسي وعلى طاقتي وحيويتي، أما اليوم فأنا أتوكل على الله وحده وأستعين به وحده واسأله من فضله وحده، خلاص رميت حمولي على خالقي فتولى أمري وهون علي ما ينتابني من نقص بالنوم والام الامراض المختلفة، وصارت كأنها شئ عادي يحدث يوميا كما نأكل ونشرب ونتنفس. 

وتابعت: "ادركت مع العجز والضعف ضرورة ان يقوم كل واحد منا بمسؤولياته خلال مراحل العمر المختلفة، فاذا كان الشباب اجتهاد وعمل واثبات الذات وتربية الابناء، فان التقدم بالعمر يصرف عنك الكثير من هذه المسؤوليات، ويلقي بها الى الابناء والاحفاد فهذه سنة الحياة". 

قلت لها انك تتعاملين مع الكبر بمشاعر سهلة ميسرة فماذا عن الوحدة وانشغال الابناء بمسؤولياتهم او بمتعهم الخاصة بعيداً عنك؟ ضحكت ضحكة من يعتصره الألم، قائلة كنت بالشباب مشغولة جداً عن أمي بينما كانت تنظر قدومي من العمل بفارغ الصبر كي استمع اليها تفاصيل يومها او تشتكي لي ما يؤلمها من الامراض، او فقط تتبادل معي الحديث وكأنها تتنفس الهواء الذي تحتاجه لتكمل باقي عمرها في أمان وسلام من الرحمن وكنت استمع لشكواها، بينما كان ذهني مشغولا عنها بتفاصيل العمل واجهاده ومشاكله حتى خضت التجربة اليوم بكل معانيها. 

سألتها تشعرين بالوحدة والعزلة، نعم وانشغال أبنائي عني بأصحابهم وموبايلهم ودنيتهم الخاصة، وكأني فقط أعيش لخدمتهم واعداد الطعام لهم دونما ان يشعروا بأمراضي وضعفي، وللأسف الاجيال اليوم اكثر أنانية يأخذون ونادراً ما يعطون. 

سألتها كيف؟ قالت كثيرا ما تشتد علي الآلام فأصرخ من شدتها وهم بالبيت لا يسمعون صراخي لأنهم واضعين السماعات بأذنهم، وكثيرا ما أطلب منهم المساعدة في بعض مراحل اعداد الطعام عندما تعتصرني الآلام من الامراض، فيرفضون مدعين انهم مشغولين بالمذاكرة او العمل، بل انه كثيرا ما يعبرون عن سخطهم من مشكلة تواجههم فيصبون غضبهم وانفعالاتهم علي دونما خطأ مني ارتكبته بحقهم. 

قلت لها وما الذي بات يسعدك بهذا العمر، قالت ان يشعر ابنائي بضخامة الجهد الذي بذلته من أجل تربيتهم ويقدروه ويتعاطفوا معي عندما يشتد علي المرض، ويضموني الى صدرهم كما كنت أضمهم واحتويهم وهم صغار، ويراعوا مشاعري عندما تنتابني مشاعر الحزن المفاجئ او الاكتئاب، ويستفيدوا من خبرتي بالحياة فهي من أثمن التجارب التي يمكن ان تحميهم بالحياة، ويمطروني بمشاعر الاحترام والتقدير، خاصة وانني على مشارف الرحيل عن الدنيا، أحب ان أجد حصاد ما زرعته من حب واخلاق ورحمة قد صار أخضر يانعاً. 

حوار صديقتي العزيزة خوفني ورعبني من مفهوم الزرع والحصاد، فكيف يفني الاب والام او الاجداد عمرهم في خدمة ورعاية ابنائهم، بينما الابناء ينشغلون بأنفسهم وحياتهم الخاصة، ولماذا كل هذه الانانية من الابناء؟ فالحياة أخذ وعطاء ورد الجميل لكبار السن من أمتع لحظات عمر الانسان، فكيف للانسان ان يحرم نفسه من هذا العطاء الجميل والمشرف؟. 

فلولا كبار السن ورعايتهم لنا ما كنا تربينا ولا تعلمنا ولا تخلقنا بالاخلاق، ولولا رعايتهم ما كنا نتمتع بالصحة والعافية التي نحيا بها اليوم آمنين، ولولا ما وفروه لنا ايضا من حب وحنان ما كنا بشرا أسوياء يحترمنا الناس،  ولولا دعاؤهم المستمر لنا بالقبول والتوفيق بالحياة ما وفقنا في اعمالنا وحياتنا الخاصة. 

فدعاؤهم مجاب لانهم صاروا اكثر قربا من الله، واحترامهم ورعايتهم ومؤانستهم حق علينا وفرض عين ورد الجميل الذي يحي به الانسان معززا مكرما بدعوة والديه واجداده، اذا احسن رعايتهم وتودد اليهم وأمطرهم احتراماً وتبجيلاً.

فكبار السن يحتاجون الى من يضمد جراح السنين الغائرة بقلوبهم من حوادث الدهر، ويحتاجون الى كلمة طيبة تسعدهم وابتسامة في وجوههم تعيد لهم احساسهم بالحياة، والى من يؤانس وحدتهم ويسمع شكواهم دونما تململ والى يد حانية تطيب جراحهم، والى قبلة على وجنتيهم تشعرهم بالحب والحنان والامتنان والتقدير. 

فلنسارع جميعا الى اقاربنا وجيراننا ممن تقدم بهم العمر، ولنقدم لهم بعض الهدايا البسيطة، ولنعبر لهم عن حبنا وامتناننا بوجودهم وبقيمتهم الكبرى في حياتنا، ولنحتضنهم ونطلب رضاهم ونقبل أيديهم، بل وأخذ رأيهم في بعض المشكلات، فهذا يجبر خاطرهم ويشعرهم بأن الحياة لا زالت تطلبهم وتستفيد منهم ويجب ان نزرع بهم الامل والسعادة وترك اليأس والحزن والوحدة، بل ان نساعدهم على التواصل مع الاصدقاء وان كان بإمكانهم العمل والقراءة وممارسة الرياضة والهوايات، وان كان بالامكان السفر والتنزه بالحدائق بين احضان الطبيعة ومحاولة ايجاد نشاطات لهم لملء فراغهم بشيء ممتع ومفيد حسب رغبتهم، وان نجتمع العائلة في منزلهم ولو مرة في الاسبوع وان نعتني بهم صحياً، ونؤمن لهم المأكل والمشرب الصحي والعلاج والمتابعات الطبية وان لا نترك لهم امرا معلقا الا وننجزه لهم.

ويجب ان ندخلهم في عالمنا فيواكبون العصر وان لا يشعروا انفسهم غرباء على المجتمع وكل الاجهزة المتطورة او الالكترونية، ويجب ان نتكلم معهم طويلا وان نستمع لهم عن مسيرة حياتهم اكثر لأنهم يحبون الحديث عن الماضي، ليس فقط لنكتسب منهم الحكمة والخبرة لا بل لنقدم اهم ما لدينا من حسن اصغاء وحب وعطاء ولابد ان نفسر لهم ان الكبر ليس عجزاً انما العجز يأتي بإرادة الانسان نفسه ان اراد ان يكون منجزا وقادرا سيواصل العطاء حتى اخر لحظة بحياته، ومن اراد الكسل والاستسلام سيستسلم للآلام والامراض والعجز والكسل، واكبر مثال سيدات اوروبا في عمر التسعين والمئة تمشي وتخرج وتتنزه وتشتري مستلزماتها وتعيش حياتها بشكل طبيعي. 

حبوا الحياة ولا تيأسوا، وعيشوا لآخر لحظة سعداء وأصحاء، واعملوا خير ما يرضي الله.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة