02 Jun
02Jun

لا تحتاج روسيا إلى هزيمة عسكرية مدوِّية في أوكرانيا حتى تهتزّ مكانتها قوة عالمية كبرى، فما جرى على مدى الستة عشر شهراً الماضية، منذ غزوها ذلك البلد، أطاح سمعتها وضعضع منزلتها وبيئتها الاستراتيجية. ومن المفارقات الكاشفة الفاضحة للقوّة الروسية أن تكون مدينة صغيرة في شرق أوكرانيا، هي باخموت، التي لا تتجاوز مساحتها 42 كيلومتراً مربعاً، ببضعة آلاف من السكان بقوا فيها، عنوان الانتصار الأبرز بعد تسعة أشهر من معارك ضارية تكبّدت خلالها موسكو خسائر هائلة. بل، ما كان لروسيا أن تحسم معركة باخموت لولا مرتزقة مجموعة فاغنر التي لا يكفّ زعيمها، يفغيني بريغوجين عن توجيه أشدِّ الاتهامات وأقذعها للمؤسسة العسكرية الروسية واتهامها بالفشل. أما الأكثر إيلاماً وإهانة فهو نقل الأوكرانيين المعركة إلى داخل روسيا، ليس في المدن الحدودية فحسب، بل وصولاً إلى العاصمة موسكو نفسها، حيث تكرّرت هجمات بطائرات مسيّرة على بعض أحيائها، كما جرى قبل بضعة أيام، وقبل ذلك كانت هناك محاولة استهدفت قصر الكرملين، مطلع شهر مايو/ أيار الماضي.
ليس خافياً، طبعاً، أنه ما كان في مقدور أوكرانيا أن تدمي الدبَّ الروسي وتستنزفه لولا الدعم الغربي غير المحدود لها. منذ الأيام الأولى للغزو الروسي، في شهر فبراير/ شباط 2022، لم تأل الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما جهداً في محاصرة روسيا، اقتصادياً وسياسياً وجيوسياسياً، ثمَّ في مدِّ أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة الدفاعية، وصولاً إلى الهجومية. لكن روسيا يفترض فيها أنها قوّة عظمى، وأوكرانيا تقع ضمن نطاق نفوذها الاستراتيجي. وبالتالي، كان من المفهوم أن تجد نفسها في معركة استنزاف، كما حصل مع الولايات المتحدة، من قبل، في فيتنام ثمَّ في أفغانستان والعراق، وكما كان حدث مع الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. غير أن الاستنزاف في تلك الحالات كان يأتي بعد غزو ناجح بقوةٍ كاسحة، ثمَّ تجد القوات المحتلة نفسها في مستنقعات مميتة جراء المقاومة الشعبية. أما في حالة أوكرانيا، فمنذ اليوم الأول، وجدت روسيا قوّتها عارية أمام العالم، وهي عاجزة عن إدارة المعركة لوجيستياً، وهو ما أتاح للولايات المتحدة وأوروبا فرصة لا تعوّض لتسليح كييف وتنظيم صفوف قواتها، ودعمها بالمعلومات الاستخباراتية، ما جعل القوات الروسية على الأرض أهدافاً مكشوفة.

حتى السلاح النوعي الروسي، من صواريخ فرط صوتية وسفن حربية ومقاتلات نفاثة ودبابات ومدرعات وأنظمة دفاع جوي، ... إلخ، انهارت سمعته. وبعد أن كانت الصين وراء روسيا في تصدير السلاح عالمياً، بدأت تزاحمها وتتقدّم عليها، رغم أن كثيراً من تكنولوجيا السلاح الصيني نسخ غير مشروعة من السلاح الروسي تمت قرصنتها أو إعادة تصنيعها. وبعد أن كانت موسكو وبكين نظيرين في تحالف استراتيجي لتحدّي الهيمنة الأميركية والغربية عالمياً، تحوّلت روسيا إلى ما يشبه حليفاً صغيراً للتنّين الصيني. ليس هذا فحسب، ها هي الصين تنافس روسيا في آسيا الوسطى، إن لم تكن في طور إزاحتها من المشهد فيها، وهو الفضاء الجيوسياسي الذي كان تحت الهيمنة السوفييتية عقودا طويلة، وكان يعدّ إلى ما قبل بضع سنوات منطقة نفوذ حيوي روسي. وفي حين كان منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أحد أبرز الأسباب المعلنة من موسكو لغزوها، حتى لا يكون "الناتو" متاخماً حدودها الغربية، فإن فشل روسيا في هذه المعركة سمح للحلف الغربي بتوسيع نطاقه ليشمل فنلندا، وستتبعها السويد.
يدرك الكرملين المصيدة الاستراتيجية التي وقع فيها، لكنه عاجز عن الخروج منها، كما أنه عاجز عن كسرها. وبالتالي، لم يعد يملك من خياراتٍ سوى التلويح بالسلاح النووي، والذي يعني اللجوء إليه نهاية روسيا كذلك، وليس خصومها فحسب. قبل بضعة أيام، صرّح الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، بأن الحرب في أوكرانيا قد تستمرّ عشرات السنين، وقد تشهد فتراتٍ طويلة من القتال تتخلّلها هدنات. قبل ذلك هدّد ميدفيديف إن حرباً نووية قد تشتعل في حال هزيمة موسكو. وهناك من يتوقّع انهياراً لنظام الرئيس فلاديمير بوتين، وربما انقلاباً عسكرياً. طبعاً تبقى هذه كلها توقّعات، ولكن ما هو ثابت أن غزو أوكرانيا يساهم بشكل فعّال في إعادة رسم خريطة القوى العالمية، بحيث انزوت روسيا وراء الصين التي صعدت قطب رحى منافساً للولايات المتحدة، في حين تمعن الأخيرة في استنزاف موسكو وإذلالها في أوكرانيا ضمن رسائل غير مباشرة موجهة إلى بكين كي تتحسّب ألف مرّة، قبل أن تقدم على غزو جزيرة تايوان. إنه صراع جيوسياسي عالمي حقيقي وخطير، ولمَّا تُكتب فصوله النهائية بعد.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *
 

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة