14 Mar
14Mar

جمعت الصين، يوم الجمعة الماضي (10 آذار مارس 2023)، خصمين هما الأشد عداوة بمنطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين، في خطوة هي الأولى من نوعها لـ"دبلوماسية بكين" التي شهدت تصاعدا ملحوظا في السنوات العشرة الأخيرة.

الدبلوماسية الصينية قبل رعايتها هذا الاتفاق، كانت تدور في فلك الاقتصاد، وتتمحور حول مشاريع تنموية اقتصادية من قبيل "الحزام والطريق" و"التنمية الدولية" وغيرها، ولم تتعدّ إلى الشأن السياسي والعسكري بشكل علني، لكن "التنين الصيني" فاجأ المراقبين بهذه الوساطة التي كانت مقتصرة على لاعبين صغار كالعراق وعمان، دون تحقيق نتائج ملموسة، بسبب افتقار الوسيطين لوجود ضامن لأي اتفاق بينهما، كما فعلت الصين.

العودة لما قبل 2003
الاتفاق بين السعودية وإيران، يظهر رغبة الطرفين في تصفير الأزمات والعودة لما قبل 2003، وهو العام الذي شكّل تحولا في موازين القوى داخل الشرق الأوسط بعد سقوط النظام العراقي السابق، وما تلاه من حضور عسكري أمريكي طاغٍ في المنطقة، وبروز مرحلة الإرهاب، وتغيير الأنظمة العربية عبر "ثورات الربيع العربي"، بالإضافة إلى التنامي الواسع والتدريجي للنفوذ الإيراني في عواصم عربية مؤثرة، ما جعل السعودية تنظر إليه نظرة استفزاز وتحدٍ كبيرين، وأوصل الطرفين للتراشق بالألفاظ والقذائف والجماعات والتحالفات، وتسبب بصراع محموم بينهما دام 20 عاما، لتقع ضحيته بلدان أخرى في المنطقة، بينها العراق وسوريا ولبنان واليمن.

بعد كل هذا الصراع، وعقب طي صفحة "الإرهاب"، وانطفاء جذوة "الربيع العربي"، وفشل الرياض بمواجهة التحديات الأمنية على حدودها الجنوبية والغربية، وانشغالها بنهضة ثقافية واقتصادية غير مسبوقة تتطلب استقرارا واضحا، ومع الخسارات الاقتصادية المتكررة لطهران الباحثة عن ما يفك خناقها، وينقذ عملتها المترنحة، وتدارك ما يمكن تداركه بعد تلاشي حظوظ الاتفاق النووي، وتصاعد الغضب الشعبي، في ظل متغيرين عالميين، كشفا عورات النظام العالمي السائد، وهما فيروس كورونا مطلع 2020، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شتاء العام الماضي، ما خلق تفاهمات دولية جديدة، ووضع كلاً من الرياض وطهران أمام أعتاب مرحلة جديدة لابد من تخطيها.

المهندس شمخاني
جاء هذا الاتفاق تتويجا لسلسلة من اللقاءات والتفاهمات التي رعاها من طرف إيران مستشار الأمن القومي علي شمخاني، مهندس الاتفاق السابق قبل 22 عاما، حين كان يشغل منصب وزير الدفاع، حيث قام في العام 2001 بأول زيارة لمسؤول إيراني من هذا النوع إلى الرياض منذ سنوات طويلة، وقد ظهر بطموح غير منطقي في تلك الفترة، تجاوز الاتفاق الثنائي، من خلال دعوته إلى بروتوكول أمني عسكري مع دول مجلس التعاون الخليجي، مستفيدا من التقارب بين الطرفين، ومن عزلة وضعف العراق آنذاك، إلا أن الواقعية السياسية حالت دون تحقيق أحلام المسؤول الإيراني ذي الجذور العربية، ليعود اليوم بذات الطموح، بل يتطلع ومن خلفه القيادة الإيرانية إلى الإسهام في تطوير هذا الاتفاق إلى منظومة إقليمية شاملة، جنبا إلى جنب مع السعودية، وكلٍّ من العراق وسوريا ودول خليجية برعاية صينية، وهي هدف استراتيجي يصطدم بالإرادة الأمريكية التي لا زالت فاعلة، على الرغم من تراخي قبضتها.

المفاجئ هذه المرة، أن السعوديين بدوا واثقين جدا من نظرائهم الإيرانيين، وانحصر قلقهم باحتمال تدخل واشنطن التي بدأت تشعر بتقلص نفوذها جراء تلك الخطوة، رغم أن الحرس الثوري الإيراني هو الآخر، لا ينظر بودّ إلى نشاط شمخاني الذي عانى من تحريض داخلي في الأسابيع الماضية، بعد إعدام أحد مساعديه (علي أكبري) بتهمة التجسس لصالح بريطانيا، لكنه بدا غير مكترث لذلك حتى مع التحولات السياسية التي عصفت في بلاده والمنطقة خلال الأعوام الـ22 السابقة، أبرزها صعود الحرس الثوري في إيران، ومحمد بن سلمان في السعودية.

ففي إيران، تضخم حجم الكيان الموازي للدولة الإيرانية، وقفز على أدواره العسكرية ليمارس أدوارا سياسية واقتصادية ومخابراتية كبيرة، (نتذكر استقالة وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف، احتجاجا على زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران دون علمه في شباط 2019)، حتى وجد (الحرس الثوري) نفسه أمام مأزق السلطة في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، وفشله حتى الآن في إدارة ملفات عدة أبرزها الاقتصاد والاتفاق النووي وتهدئة الشارع الغاضب منذ شهور، ما شجع طهران على التخفيف من غلوائها الثورية والجنوح إلى التهدئة، في المقابل، شهدت السعودية، صعود الشاب القوي محمد بن سلمان، الذي قفز على تقاليد الحكم السعودي التي ترتكز على إظهار الحكمة والنزعة العقلانية في التعامل مع الملفات الخارجية، حتى بلغ مرحلة الصدام العسكري في اليمن، وانتهاج سياسة المقاطعة غير المحسوبة مع دول أخرى كالعراق ولبنان وسوريا وقطر، والتي لم تفض إلى نتيجة، سوى للمزيد من الاستنزاف والخسارات في الأرواح والممتلكات، وهو ما أدركه في السنوات الأخيرة وعمل على تجاوزه.

إذن فإن خطوة الاتفاق، تؤشر لتحول سياسي كبير في المنطقة، من خلال عودة الرياض رسميا إلى النزعة العقلانية، مقابل تخلي طهران عن نزعتها الثورية، وإذ يبدو ذلك في ظاهره أمرا إيجابيا للعراق (ودول المنطقة)، من حيث انعكاسه على تهدئة الصراع الإعلامي والسياسي، لكنه في الوقت ذاته، قد يحوله إلى ورقة بجانب أوراق أخرى، توضع على طاولة الاتفاق الجديد، يجري تقاسمها بين اللاعبين المؤثرين في المنطقة.

لماذا الصين؟
الطرفان وبعد الجولات الخمسة من المفاوضات التي خاضاها (أربعة في بغداد وواحدة في مسقط)، وجدا أن العودة إلى اتفاقية العام 2001 كأساس للتفاهم بينهما، هي الحل الأمثل في الوقت الراهن، لكن الحاجة برزت لوجود راعٍ وضامن لإحياء هذا الاتفاق، يمكن الوثوق بقدرته على فرض ذلك، فكان الصين.

وبعيدا عن اهتمام الصين التجاري بالمنطقة، (كونها شريكا استراتيجيا لا غنى عنه بسبب تأمينها أغلب حاجاتها من الطاقة، مع ارتفاع التبادل التجاري، الذي يبلغ مستواه مع إيران 15 مليار دولار، ويتضاعف 6 مرات مع السعودية التي باتت تؤمن 18٪ من وارداتها النفطية)، فإن كلا البلدين -السعودية وإيران- لم يجدا ضامنا لاتفاقهما أكثر وثاقةً من الصين، فالرياض لم تعد ترى في واشنطن موضعا لثقتها بفعل ما تشعر به من خذلان جراء اختلاف سياسات الجمهوريين والديمقراطيين في التعاطي مع ملفات المنطقة، ناهيك عن أن الثانية ترى فيها عدوا تاريخيا، أما دول الاتحاد الأوروبي الغارقة في تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصادها وتماسكها، وبعد فشل مفاوضات الاتفاق النووي، لم تعد مؤهلة للعب هذا الدور، ناهيك عن اطمئنان أكبر دولة خليجية بأن مصلحة بكين الاقتصادية باتت معها وأن ذلك سوف يُملي عليها مراعاة مصالحها أكثر من أي شيء آخر.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة