تذكّرنا لعبة القط والفأر الدائرة اليوم بين واشنطن وبغداد بمسلسل توم وجيري الذي كنا نتابع حلقاته في طفولتنا بشغف ولهفة، حيث يلاحق القط توم الفأر جيري ليصطاده، لكن الأخير يراوغ ويهرُب، ليختفي بعيدا عن أعين توم الذي يعاود البحث عنه، وسرعان ما يجده مُختبئا في زاويةٍ ما، هنا يحاول الانقضاض عليه، لكن جيري يهرُب ثانية، وهكذا تتواصل اللعبة زمنا، توم يتقدّم وجيري يهرُب، إلى أن ينجح توم في الإمساك بضحيته. الفارق بين ما شاهدناه في طفولتنا وما نشاهده على الطبيعة اليوم أن القط توم (الولايات المتحدة) تُمسك بالفأر جيري (العراق) منذ 20 عاما، والأخير يحاول الفكاك منها بمراوغتها تارة، ومغازلتها ثانية، والتوسّل إليها ثالثة، لكنها تأبى أن تتركه، فهو الكنز الذي سعت للحصول عليه مديدا حتى استحوذت عليه.شهدنا في الأسبوع الأخير فصلا جديدا من هذا المسلسل، ترصُد العين الأميركية مليارات الدولارات، تنقل على دفعات من بغداد إلى طهران، خلافا لقواعد التعامل المعمول بها دوليا. ويعرف العالم كله أن معظم تلك المليارات يصبّ، في النهاية، في خدمة المشروع الإقليمي لدولة "ولاية الفقيه"، والبقية تدخل في عمليات غسل أموال لصالح قادة مليشيات وحيتان فساد. تطلب واشنطن من بغداد وقف تلك التعاملات، بغداد تراوغ في الالتزام بالطلب الأميركي، تغضب واشنطن من مراوغات بغداد وتهدّدها بعقوبات. أول الغيث كان قرار البنك الفيدرالي الأميركي الذي يحتفظ بواردات مبيعات النفط لديه بعدم الاستجابة للحوالات المالية الصادرة من العراق إلا في حدود ضيقة. وبعد التأكّد من هوية المستفيد الأخير، يرتفع سعر صرف الدولار في العراق على حساب الدينار، تلتهب الأسواق وتزداد معاناة الشرائح الفقيرة، تتصاعد النقمة على دولة "ولاية الفقيه" ووكلائها، تلوح بغداد بعلاقة اقتصادية أقوى مع روسيا والصين، وتتحدّث عن خطط مع شركات غير أميركية ولا غربية، لكن هذا غير مسموح به أميركيا، ترفع واشنطن العصا الغليظة في وجه بغداد، تضطرّ بغداد للتراجع، وتعود إلى التوسّل بواشنطن لإمهالها، ولو عدة أشهر، لترتيب أمورها.
ترفض واشنطن وتهدّد، تتوسّط عمّان، ويسافر وفد عراقي إلى واشنطن على عجل، يروّج رجال "الإطار التنسيقي" وزعماء المليشيات الذين صنعوا حكومة محمد شياع السوداني أن بغداد ستعيد النظر في اتفاقية "الإطار الاستراتيجي"، وستطلب رحيل العسكر الأميركيين. في اجتماعات واشنطن، يملي الأميركيون شروطهم، وينصاع العراقيون لها، ويبتلع "وكلاء" إيران ألسنتهم، وتتصاعد نغمة الحديث في بغداد عن علاقة طيبةٍ مع "الحليف الأميركي المهم" و"الجار الإيراني المهم"، والوصف هو من وزير الخارجية، فؤاد حسين، وتنكشف اللعبة أكثر.يقول المنطق الأميركي: "العراق كله حصّتنا، قاتلنا من أجله، ضحّينا بعشرات الآلاف من جنودنا، وخسرنا مليارات الدولارات كي نصل إليه، لن نسمح لأحدٍ بأن ينافسنا في استثماره، حلفاؤنا وأصدقاؤنا فقط هم من يمكنهم أن يمرّوا من هنا، وعلى العراقيين أن يعوا ذلك جيدا"!ووفقا لهذا المنطق، فرضت أميركا على العراق "تعميق شراكة استراتيجية في ظل اتفاقية الإطار الاستراتيجي"، وهذا يعني لجم أفواه "وكلاء إيران" الذين طالبوا بإلغاء الاتفاقية أو تعديلها، وبقاء العسكر الأميركيين في العراق إلى ما شاء الله، ولكي تضمن واشنطن غلق "الحنفية" التي تصبّ مياهها في طهران، ألزمت بغداد بـ"تنفيذ المعايير الدولية لحماية النظام المصرفي من الجرائم المالية وغسل الأموال وتمويل الإرهاب"!
انتهت اجتماعات واشنطن أيضا إلى دخول "40 شركة أميركية ورواد الصناعة في مجالات الغاز والكهرباء وتحديث البنية التحتية للكهرباء ومصادر الطاقة المتجدّدة" على الخط، و"وصول بعثات تجارية أميركية إلى بغداد لاستكشاف فرص الاستثمار"، و"التزام العراق بمشاريع الربط الكهربائي الإقليمي مع الأردن والسعودية ومجلس التعاون الخليجي"، هذا كله يعني سحب البساط من تحت أقدام إيران، وقصم ظهرها وظهور وكلائها النافذين. غير هذا، هناك من يتحدّث عن تفاهمات واتفاقات سرّية تلزم العراق بالحد من نفوذ المليشيات، والعمل على حصر السلاح بيد الدولة، على أن يتم تنفيذ هذ المطلب خلال فترة محدّدة قد لا تتجاوز السنة.يبقى السؤال: هل يمرّ ذلك كله بسهولة، وهل سيكون بإمكان حكومة السوداني تنفيذ تعهّداتها هذه في مأمن من شرور أفاعي إيران وحيتانها؟ نعرف الجواب من تحرّك زعماء المليشيات حتى قبل أن يجفّ حبر ما تم الاتفاق عليه مع الأميركيين. كتب أبو علي العسكري (كتائب حزب الله): "مواجهة الأميركيين واجب شرعي لا يحتاج إلى إذن من تنظيم أو غيره".لن تصمت إيران، إذن، ووكلاؤها في العراق سوف يقومون بالواجب، وسيدفعون بالعراق إلى الفوضى كعادتهم، أما العراقيون الذين وضعتهم أقدار غاشمة وسط النيران، فحسبهم الله.