لا أخفي إعجابي وانبهاري بما أطّلعُ عليه في كلّ يومٍ من معلومات قيّمة وما أسمعُه وأقراُه من أفكار وآراء محدّثة متزنة وأخرى عقلانية متقدمة عمّا يُنشر أو يظهر عبر قنواتٍ خاصة في التلفزة وفي وسائل التواصل الاجتماعي عند طرح ومناقشة مواضيع دينية وفقهية معمّقة غاية في الحرج أحيانًا تخص آراءً وأفكارًا لمتنورين وأصحاب نظريات ومحلّلين كانت بالأمس محظورة أو غير مقبولة لدى شرائح كثيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
والرائع والمبهج في العديد من هذه الطروحات أن يكون روّادُها من رجال دين وفقهاء عقلانيين ومتنورين يرفضون أية نزعات للغلوّ أو القبول بالغرائب في قراءة وتفسير وتأويل صفحات التاريخ بحسب الأهواء والمصالح من الذين يقرأون التاريخ بحسب تصوّر أيديولوجي قاصر وضيّق الأفق لا يتعدى حدود المذهب وأصحابه. وحسنًا يفعلُ هؤلاء برفضهم تزييف التاريخ وما يصدرُ من جماعات متخلفة تضحك على ذقون الأتباع وأهل المذاهب التي ماتزالُ بعضُها منغلقة الذهن والبصر وترفض الحداثة والتأوين وصراحةَ أهل الاختصاص في تحليل شكل هذا التاريخ وشخوصه وأهدافه. ناهيك عن أفكار ناضجة حديثة لمبدعين ومؤمنين بمفهوم الأخوّة الإنسانية الذي يكرّسُ لعيش واقع الحال الإنساني الراقي في تحليل التاريخ من وجهة نظر.
وجهة نظر
سوسيولوجية ودينية رصينة لا تقبل بأية أفكار تتخذ من الغلوّ والتعصّب والتعالي والتفوّق سبيلاً للانتشار والشهرة على حساب المجتمعات الأخرى المختلفة دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا، بل تنشد وتدعو مثل غيرها من أرباب ودعاة التعايش السلمي إلى الوسطية والاعتدال في الطرح والتعامل والعيش وقبول الآخر المختلف.
«خيرُ الأمور أوسطها»، مقولةٌ مقبولة قد تنفع في أي وقت وأي زمن وتحت أيّ ظرف ضمن نطاق واسع لحرية الفرد فيما يختارُه من عقيدة وعبادة ومرجعية. هي خيار العقلاء وخبز الحكماء وقوت الأتقياء وزاد الفقراء إلى الله وطريقهم للتقرب منه ومن خلقه في خضمّ مشاكل العصر التي تحدقُ بالمجتمعات البشرية، لاسيّما المتضعضعة والهزيلة والمتخلفة منها بسبب إفساد السياسة للدين، أيّ دين، وبسبب تدخل الحكومات في شؤون الأديان ومراجعها أو في طريقة العبادة التي يرتقي بها الإنسان ويختارها طريقًا بعد حياته على الفانية. فالبشرية اليوم، لم تعد بحاجة إلى دولة «متدينة» تتدخل في كلّ شؤون حياة مواطنيها وترسم لهم ما ينبغي فعلُه وممارستُه بالفرض أو الترغيب أو التهديد. إنما مسؤوليتُها الأساسية تكمن في تقديم ما يساعد المواطن الذي تحكمه بأيّ شكلٍ وأيّ ظرفٍ، من خدمات آدمية وإنسانية هي من أبسط حقوقه، ومن كرامة قوت يقيه العوز والجوع والعطش وشظف العيش، ومن تعليم صحيح يضمن له حسن الأخلاق والسلوك صعودًا نحو طريق الرقيّ والتطور في التعامل اليومي الإنساني والتعايش السلمي مع باقي البشر في محيطه وخارجه. وغير هذه كثيرٌ وكثير لا يتوفر أبسطُه في هذه الأيام البائسة في بلاد الرافدين، بلد الحضارات والثقافات والأديان والأقوام التاريخية المتعاقبة.
رقيٌّ في الطرح والعيش
إنَّ مَن يدعو اليوم من أحباب الله ومحبّي خليقته للوسطية والاعتدال في التعبّد والسلوك وشكل الإيمان وممارسة الشعائر بتحضّر إنساني من دون غلوّ وبعيدًا عن تسلّط الحكومات وأدواتها بسبب تفاقم مفردات التعصّب والتطرّف والتزمّت واشتداد وطأة فساد الحكّام، فقد تناهت إليه جلُّ أشكال الخير والرقيّ، بل وتُسجَّلُ له مواقف أخلاقية وإنسانية ناضجة بمنهجية منتجة في السلوك الحياتي بين الناس على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم وبغض النظر عن مدى وشكل الاختلاف بين الأطراف المختلفة أو المتخالفة في الرأي والرؤى والعقيدة. وهذه قمّة النضج والاحترام إزاء المختلفين في هذه جميعًا، وليس بتحويل الدولة إلى داعية للتديّن الظاهر وبمظاهر دخيلة وغريبة لا تخلو من أشكال الخرافة والبدع والضحك على الناس البسطاء خاصة. بل إنَّ في مثل هذا النشوز والشذوذ في التفسير وفي الدعوة للتطبيق غير السويّ وغير الحضاري للشعائر والمشاعر انحرافًا عقائديًّا عن الأصل فيما بلغنا من نصوص الكتب بفعل قرّاء سذّج ومتديّنين جهلة ومدّعين مغالين في الفهم والتأويل والاستيعاب الصحيح. فلكلّ زمان كلامٌ ولكلّ جيلٍ مقامٌ.
شكل الايمان
ما يهمنا هنا، هو شكل الوسطية أو ما نعنيه بالاعتدال في فهم أسرار وخفايا وجواهر الأديان بين هؤلاء المختلفين في الحكم على بعضهم البعض، انطلاقًا من الإيمان المطلق بحرية الفرد في التعبير عن شكل الإيمان والعقيدة بموجب جوهر فهمِ الإنسان لموجبات الدين والمذهب الذي ينتمي إليه في التعبد والممارسة، ولكن من دون غلوّ أو مزايدات أو فرض لشُعيرة أو ممارسة معينة على الغير المختلف.
وفي هذا حقٌ من حقوق البشر المشاركين والمتشاركين في الحياة العامة في بقعة معينة أو مدينة أو بلد، ومن ثمَّ على نطاق أوسع في عالم اليوم المتلاطم بسبب موجات متراكمة لأمراض العصر الناجمة عن تقاطع المصالح والرؤى والتأويل لحقيقة الأديان وجوهرها. والسبب في هذا التناشز والتقاطع والتناحر في إقناع الطرف المختلف يكمن في مفاتيح ومغاليق شكل الغلو أو التزمّت القائم لدى البعض بسبب الرؤية القاصرة في فهم جوهر الدين والعقيدة والمذهب، ومن ثمّ في طريقة عيش مفاهيم هذه جميعًا لاختلاف التفاسير والتأويلات وفهم النصوص المكتوبة على مدى قرون خلت ضمن رؤية تلك الأوقات والأزمنة، حبًّا أو كرهًا بالمراجع والمصادر والنقلة في الإسناد والتقليد.
لذا مَن يأخذ بهذه فقط كما أتته أو كما سردتْهُ كتبُ الأقدمين ونقلتهُ السُنن وفق منهج الأزمنة البالية من دون تمحيص للصحيح وقبول المعقول منها عن المغالط والمخالف ومن دون إعادة تأوينٍ وتحديث في التفسير ومن دون مراجعةٍ عاقلة وناضجة ومنتجة بحسب تطور العصر والعلم ومراعاةً لحاجات البشر الراهنة، فهو يسيرُ في طريق الأشـــــــــــــواك الذي لا ولن يقود إلى برّ الأمان وإرضاء ربّ السماوات والأرض صاحب هذه الأديان التي أتتنا وتلقيناها وورثناها عن السلف، من دون اضطرارنا للحكم على وجهات نظرهم، مهما كانت صحيحة أو خائبة أو ناقصة. فالبشر يتصرف في العادة وفق حاجاته وظروفه، زمانًا ومكانًا، مسجِّلاً مواقفَ يحكمُ عليها التاريخ وجغرافية هذا التاريخ في الكثير من الأحيان.
فما بين أيدي البشر من شرائع وقوانين على مرّ التاريخ، قد حرص الإنسان الحاكمُ بتوفيق الزمن والظرف على فرضها على الغير لغايات كثيرة ومتشعبة لن أدخل في تفاصيلها. واللبيب تكفيه الإشارة!