14 May
14May

عندما عبَرت معبر المصنع البرّي الذي يفصل بين لبنان المُفترض أن حُكومته تحظي بالدّعم الأمريكيّ والأوروبيّ، وسورية الدولة التي تتعافى بشَكلٍ بطيء، ولكن بثبات، من حربٍ تدميريّة مُستمرّة مُنذ 12 عامًا وتخضع لحصارٍ أمريكيٍّ خانقٍ (قانون قيصر) لمست الفارق الكبير، بحيث التبس عليّ الأمر، وشعرت بأنّ الصّورة معكوسة، ومُتناقضة كُلّيًّا مع الصّورة التي كانت مزروعة في ذهني عن البلدين والحرب معًا.

كنت أتوقّع أن أجد في البلد الذي أزوره للمرّة الأولى من 15 عامًا، الدّمار في كُلّ مكان، و”الأتوستراد” مليئًا بالحُفر، وحواجز طيّارة للمُسلّحين المدعوم مُعظمهم من دول عُظمى مِثل أمريكا وتركيا ودول مِلياريّة عربيّة، أو حواجز أمنيّة سوريّة على طُول الطّريق البرّي وتفتيشٍ دقيق للقادمين، خاصّةً من لبنان “الدّولة شِبه الفاشلة” التي لا يُوجد فيها رئيس، وتُديرها حُكومة لتصريف الأعمال، وبُنوك تُعاني من الإفلاس، ولكن كُل هذه الأفكار المُسبقة، والمبنيّة على مُبالغاتٍ صحافيّة، “سوشيال ميديّة” تبخّرت كُلّيًّا مُنذ الوهلة الأولى، فالأتوستراد كان عصريًّا سليمًا، ويُذكّرني بنُظرائه في أوروبا، حيث لا حُفر ولا قاذورات، وأكوام قُمامة، وقُلت في نفسي ربّما أن هذا “الأتوستراد” الدولي يحظى بعنايةٍ خاصّة لأنّه أحد بوّابات البلاد إلى العالم الخارجي، خاصّةً بعد تراجع أهميّة المطارات وأنشطتها بسبب القصف الإسرائيلي المُستمر، ولكنّني وجدت الصّورة نفسها في العاصمة دِمشق، وبصُورةٍ أكثر وضوحًا، فالمطاعم مُزدحمة بالزّبائن، وكذلك المقاهي الشعبيّة، أمّا عن الأعداد الضّخمة من المُتسوّقين في سوق الحميديّة فحدّث ولا حرج، وكان من الصّعب السّير فيه من كثرة عددهم، وسيّارات الأجرة الصّفراء تملأ العاصمة وشوارعها، وكأنّ أزمة الوقود جرى حلّها بشَكلٍ نهائيّ.

وصلت إلى سورية يوم عودة العرب إلى سورية، وصُدور قرار الجامعة العربيّة بإعادة رفع علمها، ولم أرَ أيّ احتفالاتٍ بهذه الخطوة، لا رسميًّا ولا شعبيًّا، باستثناء صُدور بيان “بارد” عن الخارجيّة السوريّة يقول “تلقّت سورية باهتمامٍ القرار الصّادر عن الجامعة، وأن المرحلة تتطلّب نهجًا عربيًّا فِعلًا، وبناءً يستند إلى قاعدة الحِوار والاحترام المُتبادل، والمصالح المُشتركة للأمّة العربيّة”.

***

نزلت إلى الشّارع في قلب العاصمة، وحرصت أن أسأل المُواطنين عن قرار العودة إلى الجامعة المذكور آنفًا، ويُمكن تلخيص الرّدود في ثلاثة شرائح:

الأولى: حالة من اللّامبالاة، وعدم الاهتِمام وفُقدان كامل للثقة في الجامعة العربيّة ومُنظّماتها باعتبارها فاقدة القيمة.

الثانية: السّخط الشّديد على العرب الذين تآمروا على سورية وطعنوها في الظّهر وأرادوا تفتيتها وتقسيمها وزعزعة أمنها واستِقرارها وهي التي خاضت جميع الحُروب العربيّة، وقدّمت مِئات الآلاف من الشّهداء، وخسرت هضبة الجولان مع أنها لم تَعتدِ على أحد وحرصت على إقامة علاقات وصِفر خِلافات مع الجميع، وصبّ مُعظم أنصار هذه الشّريحة جام غضبهم على الجامعة، وقالوا إنّه لا يُشرّف بلدهم العودة إليها.

الثالثة: لا تُعارض هذه العودة، وتعتقد أن سورية يجب أن تتعامل “ببرغماتيّة”، وتُعطي الأولويّة لإعادة الإعمار، والخُروج من أزماتها الاقتصاديّة، وتتحلّى بُروحٍ من التّسامح والنّظر إلى الأمام والمُستقبل وتطوي صفحة الماضي.

القيادة السوريّة، والرئيس بشار الأسد على وجه الخُصوص، يميل أكثر إلى مُعَسكر الشّريحة الثالثة، ولا يحمل أيّ نوع من الأحقاد للعرب، ولم يذكر أيّ زعيم عربي بسُوء حتى أولئك الذين عارضوا عودة سورية، وما لمسته من خلال اللّقاء معه أنه يُعطي أهميّةً أكبر للعلاقات الثنائيّة مع الدّول العربيّة التي أعادت فتح سفاراتها في دِمشق، خاصّةً الدّول الخليجيّة الثلاث، السعوديّة والإمارات وسلطنة عُمان التي زار اثنتين منها بدعوةٍ من قِياداتها، ولا نستبعد أن يقوم بزيارةٍ رسميّة إلى الرياض الأُسبوع المُقبل، يكون الشّق الأوّل منها تلبية دعوة رسميّة وعقد قمّة ثُنائيّة مع قِيادتها، على غِرار زيارة الرئيس الصيني تشي جين بينغ، أمّا الشّق الثاني فللمُشاركة في حُضور القمّة العربيّة وتتحدّث الأوساط السوريّة القريبة من القصر عن تطوّر علاقات صداقة “شخصيّة” بين الرئيس الأسد والأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي، مُرشّحة للتطوّر في ميادين عدّة بينها التعاون الاقتصادي، وإعادة الإعمار، وإحياء الحِلف السوري- السعودي التاريخي.

مُعظم السوريين الذين التقيتهم، سواءً كانوا رسميين أو من المُواطنين من مُختلف الطّبقات عبّروا لي عن تفاؤلهم بعودةِ سورية القويّة القائدة، واستِعادة مكانتها عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ويُشدّدون في الوقت نفسه أن الشعب السوري المُبدع الخلّاق، هو الذي سيُعيد بناء بلده إذا توفّر الحدّ الأدنى من الإمكانيّات اللّازمة، ويُشيرون كيف استطاع السوريّون النّازحون إلى ألمانيا أن يتحوّلوا إلى أصحاب “بزنس” ومُنتجين في مجالاتٍ عدّة ومن دافعي الضّرائب، ولا يعيش إلا نسبة قليلة منهم على مُساعدات الدّولة، ويُذكّرون بأنّ بعضهم أثار حسد رجال الأعمال الأتراك وغيرتهم، لنجاحهم في مجالاتٍ تجاريّةٍ عدّة في تركيا، وفي هذه العُجالة نُشير إلى تجاربِ نجاحهم وبصماتهم الخاصّة في القاهرة (مدينة أكتوبر) ولندن وباريس والقائمة تطول.

رُعب الولايات المتحدة الأمريكيّة من عودة العرب لسورية، وعودة سورية للجامعة العربيّة يعكس مدى جديّة هذا التّفاؤل، ومُحاولتها عرقلته، ويتّضح ذلك في أمرين أساسيين: الأوّل البيان الأمريكي الذي عارض هذه العودة، وقال إن سورية لا تستحق العودة إلى الجامعة العربيّة، والثاني: قيام مجموعة من النوّاب الأمريكيين بالاستِعداد لإصدار قانون أمريكي بتشديد العُقوبات على سورية بعد فشل حِصار “قانون قيصر” وفرض عُقوبات على الدّول والمُنظّمات التي تُسهّل عودة سورية إلى العمل العربيّ المُشترك، وتُساعدها على كسْر الحِصار.

الانطِباع الأبرز الذي تكوّن لديّ بعد زيارتيّ لسورية، أنها عائدة بقوّة لاستِعادة مكانتها العربيّة والإقليميّة، وأن الحرب التي جرى شنّها عليها طِوال الأعوام الماضية تَلفُظ أنفاسها الأخيرة بفضل صُمود قِيادتها وشعبها وجيشها.

بعد هزيمة المُؤامرة الأمريكيّة، وضخّ أكثر من 500 مِليار دولار لإنجاحها، واستعادة مُعظم الأراضي لسيادة الدّولة السوريّة، وأعتقد أن المعركة القادمة ستتركّز على طرد القوّات الأمريكيّة من قواعدها في التّنف وشرق الفُرات حيث سلّة الغذاء، وآبار النفط والغاز، وتحرير الشّمال الغربي السوري من الاحتِلال التركي.

العمليّات الفدائيّة، والقصف الصّاروخي بدأت بطرد القوّات الأمريكيّة، وستتكشّف في الأسابيع المُقبلة، وهذا ما يُثير قلق البيت الأبيض، أمّا انسِحاب التركيّة فشِبه مُؤكّدة، أيًّا كانت نتيجة الانتِخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة التي ستُجرى غدًا الأحد.

***

لم أتردّد في نقْل السّؤال الأهم على المسؤولين السوريين عن أسبابِ عدم الرّد على الغارات الإسرائيليّة الاستفزازيّة التي زادت عن 400 غارة في السّنوات الخمس الماضية، وقالوا لي بصراحةٍ إن سورية جُزءٌ من محور المُقاومة، وأن “إسرائيل” كانت تُريد استِخدام هذه الغارات لإبعاد الجيش السوري عن إنجاز مهمّته الأساسيّة في الحِفاظ على وحدة واستقلاليّة الأراضي السوريّة، وأكّدوا لي أن محور المُقاومة الذي باتَ يملك صواريخًا أسرع من الصّوت، ومُسيّرات مُتقدّمة جدًّا، ونجح في هزيمة العُقوبات، يزداد قوّةً يومًا بعد يوم، كما أن هذه الغارات لم تهزم الجيش السوري، ولم تُزل سورية من الخارطة، ولم تدفعها للاستِسلام أو التطبيع، ولم تمنع وصول الصّواريخ إلى حزب الله، ولا إلى المُقاومة في الأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة، والأيّام القادمة ستحمل مُفاجآت كبيرة، والحرب تحتاج إلى صبرٍ وتخطيط، وهل حال العدوّ أفضل هذه الأيّام ممّا كان عليه قبل خمس أو عشر سنوات، أم ما حدث العكس؟ وليس كُل ما يُعرَف يُقال.

خِتامًا، أعترف أنّني لم أزُر إلا العاصمة دِمشق في زيارتي القصيرة، وكنت أتمنّى زيارة مُدُن وأرياف سورية لنقل صُورة أكثر وضوحًا وشُموليّة، ولكن أوّل الرّقص حنجلة، ولا بُدّ من حلب وحمص واللاذقيّة ودير الزور وإن طالَ السّفر.. والأيّام بيننا.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة