دائما ما يواجهني بعض الأصدقاء والمعارف بالسؤال : لمن تكتب، ألا ترى ان عدد القراء يتضاءل بشكل كبير؟، أنظر يا رجل الى كتاب الأعمدة الذين يعيدون نشر مقالاتهم على صفحاتهم في الفيسبوك، وتابع اعجابات وتعليقات المستخدمين، فالأرقام ستصدمك حتما، وحضرتك تعرف ان من الاعجابات ما يأتي بدافع المجاملة، ولا تعني ان أصحابها قد قرأوا المقال، أليس هذا مؤشر على عدم جدوى الكتابة ؟، واذا كنت تخاطب الطبقة السياسية والحكومة وأجهزتها المختلفة فكن على يقين : لا أحد يطالع ما تكتبون. هذا ما أسمعه، وربما في دواخلهم يصفوني بالبطران الذي يهدر وقته فيما لا طائل منه، وقد تمتد الأوصاف الى ما هو أكثر من ذلك لو عرفوا حجم المخاطر التي يمكن أن تعرضنا لها الكتابة في الصحافة، مع انك لا تستهدف شخصا بعينه، ولا تريد التقليل من شأن حزب او تيار، ولا يخطر في بالك أن تسقط أحدا لحساب آخر، أو ان تنافسهم يوما على منصب، بل كل الذي يعتلج في دواخلك قهر شديد على بلد يتراجع وشعب مظلوم مذ أبصرت عيناه الدنيا وما زال. ما أسمعه يسمعه غيري من الزملاء، ومع ذلك مستمرون بالكتابة وسنستمر، ولكل أسبابه، وما يدفعني لها أسباب شتى، قد أشترك مع غيري في بعضها، وربما أتفرد في بعضها الآخر، فالذي يمتهن الصحافة عليه أن يؤمن بأنها رسالة قبل أن تكون مهنة، وبذلك تترتب عليه مسؤولية أخلاقية ووطنية، وبوصفه مثقفا فلا بد أن يكون فاعلا في مجتمعه (مثقفا عضويا) بحسب تعبير أيديولوجية الأخوة أصحاب الفكر اليساري، وعليه يشكل الارتقاء بالدولة والمجتمع هدفا أساسيا، وان اقتضى منه التضحية بجهده ووقته وماله وربما نفسه، فما بالك اذا كان شعبه يعيش في المستديم من الأزمات، والقاتل من الصراعات، وينخر في جسده العميق من التخلف والمزمن من الأمراض، حتى صار من المتعذر مقارنته بغيره سوى تلك المجتمعات التي تعيش طورا بدائيا، فهل من اللائق أن يظل المثقف صحفيا كان ام استاذا جامعيا ام غيرهما صامتا، بينما الوطن يتلاعب به المغامرون، والذين لا تجد الروح الوطنية طريقا الى نفوسهم، والذين يرون في السلطة تسلطا، ومن لا هم لهم سوى اكتناز المال وان ذهب الناس الى الجحيم، ومن يرى في المنصب سدا لنقص في وجاهة، وقلة اولئك الذين ضمائرهم بصيرة وأياديهم قصيرة، لأن الفاسدين يحاصروهم من الجهات الأربع بأذرع ناعمة وأخرى بمخالب، وعليه أن يختار، او ينزوي في ركن منسي من بيته، هكذا هي الحال، وشرف المهنة يوجب عليك محاربة هذه الظواهر بما تستطيعه، وتثنى على ما يستحق الثناء عملا تنمويا، او موقفا وطنيا، او ارادة صادقة، او تضحية بطولية. لا يعنيني كم الذين يتأثرون بما أقول، فان تغيير شخص واحد يكفيني، ويشعرني بعظمة انجازي الذي يحثني على الاستمرار في الكتابة. أكتب لتدوين سيرتي الفكرية، فالسيرة الحقيقية لا تكمن بمتى ولدت، وأين درست، وما حصلت عليه من شهادات وغيرها، بل في نمو الأفكار وتطورها، والتحولات الثقافية التي مررت بها، وطبيعة آرائك ومواقفك واتجاهاتك حيال ما يحدث في بيئتك، وما تكابده بلادك من ويلات. أكتب للتاريخ، أوّثق لما يجري، فالصحافة مصدر من مصادر التاريخ، ولا بد للأجيال أن تعرف أحوال السابقين سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، لتستلهم منه ما يحفزها على النهوض، وتجنب ما يحبط عزيمتها، فالدخول الآمن للمستقبل يستلزم استلهام المشرق من التاريخ، والتغافل عن المعتم، ولكن حتى هذا الاستلهام والتغافل بحاجة الى ادارة ورؤية، وبعكسهما قد يهوس المجتمع بماضيه، حتى يصير سجنا تمنعنه قضبانه من الولوج الى المستقبل، وأظن في حاضرنا شواهد كثيرة. ما زال عندي ما أرغب بقوله لكم، لكن مساحة مقالي لا تكفي، فاعذروني.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"