فى وقت ما قد يكون قريبا ، سوف يتوقف إطلاق النيران مؤقتا فى الحرب الراهنة ، وهى أعنف مواجهة فلسطينية خالصة مع كيان الاحتلال ، نزفت وتنزف فيها «غزة» كما لم يحدث قبلها أبدا ، وبلغ عدد الشهداء والشهيدات فيها نحو ثمانية آلاف حتى لحظة كتابة السطور ، نصفهم من الأطفال والنساء ، وربما تتضاعف الأرقام فيما بعد ، مع احتساب آلاف المدفونين لا يزالون تحت الأنقاض ، إضافة لضحايا الحصار والتجويع والتشريد وقطع المياه والكهرباء والوقود وكل موارد الحياة ، ومن دون أن يخف وقع الكارثة بنجدة مؤثرة ، فعشرات الشاحنات من «معبر رفح» إلى جنوب «غزة» حتى اليوم ، لا تمثل سوى « قطرة فى محيط الاحتياجات العاجلة « بوصف «أنطونيو جوتيريش» سكرتير عام الأمم المتحدة نفسه .
غير أن الحرب ، التى يبدو فيها وجه المأساة الفلسطينية ظاهرا إلى حد الإبادة الجماعية ، حملت أيضا وجوه صمود وبطولة خارقة لا تخفى ، فهذه أول مرة تعبر فيها قوات المقاومة الفلسطينية من الأراضى المحتلة عام 1967 إلى الأراضى المحتلة فى نكبة 1948 ، ليس باختراق فدائى محدود ، ولا بعمليات استشهادية ، بل بقوات نخبة عالية التدريب جاوزت الألف ، وكجيش نظامى محترف ، يتقن الخداع الاستراتيجى والمفاجأة المذهلة ، وتحارب جيش الاحتلال فى عقر كيانه وقواعده ، وتسحق استخباراته وتكنولوجياته وضباطه وجنوده ، وتسيطر لأيام طويلة على نحو 500 كيلومتر مربع ، وتنفذ انسحابا كفؤا منظما عبر طرق مرئية ومخفية ، ومعها مئات الأسرى تحتفظ بهم فى مدن أنفاق هائلة ، لم ينجح قصف غزة بالطائرات والقنابل الأمريكية «الزلزالية» ، وبما يساوى عدة قنابل ذرية حتى اليوم ، فى الوصول إلى أغلب قادة كتائب المقاومة ، ولا فى كشف خرائط الأنفاق ، ولا فى الإضرار بالجهد القتالى الفلسطينى الرئيسى ، برغم التدمير الهمجى المعمم لنحو نصف مبانى قطاع «غزة» ووحداته السكنية ، وبرغم نزوح أكثر من نصف سكان «غزة» إلى الجنوب والوسط وفى المستشفيات ومدارس «الأونروا» ، وبرغم الانهيار الكلى للنظام الصحى ، لا تزال «غزة» صامدة كقلاع الأساطير ، تودع شهداءها بالدموع والاحتساب كل صباح ومساء ، بينما يهرب مئات آلاف «الإسرائيليين» المحتلين المذعورين من مستوطنات غلاف غزة ، ومن مستوطنات الجليل الأعلى فى الشمال ، ويفقد كيان الاستيطان الإسرائيلى مليارات الدولارات كل يوم ، وتتدهور عملته «الشيكل» فى اطراد ، ويدفع حليفه وراعيه الأمريكى عشرات المليارات من الدولارات ، ويحشد أقوى حاملات طائراته وقطعه البحرية الكبرى ، وينزل الآلاف من كبار جنرالاته وقواته الخاصة على الأرض لحرب منتظرة مع قوات المقاومة الفلسطينية ، وتحت شعار «إبادة حماس» ، ويؤجل الحليفان المتطابقان الأمريكى و»الإسرائيلى» مرحلة الغزو البرى ، خصوصا بعد إخفاق بروفة الغزو فى «خان يونس» ، ومفاجأة المقاتليين الفلسطينيين لسرية غزو ، وتدمير دباباتها وآلياتها وقتل وجرح جنودها ، إضافة لاستمرار هجمات المقاومين الفلسطينيين لعمق الكيان فى قاعدة «زيكيم» وغيرها ، فوق رشقات الصواريخ المحطمة لأعصاب ونفسية العدو ، وهو ما يبشر بهزيمة محققة ـ بعون الله ـ لقوات الجيشين الإسرائيلى والأمريكى عند حلول مواعيد الغزو البرى ، وهى عشرة أضعاف قوات «حماس» ، مع فوارق التسليح المرعبة على الورق ، لكنها لا تملك عقيدة قتال كالتى لدى المقاومين الفلسطينيين ، فلا «تل أبيب» ولا «واشنطن» ولا غيرهما من عواصم الغرب المعادى ، لا أحد من هؤلاء ولا جميعهم ، بوسعهم احتمال خسائر بشرية فادحة ، قد تلحق بهم فى قتال الرجال على الأرض وجها لوجه ، إضافة لما جرى من تصدير الارتباك والقلق والعار إلى صفوف الغرب نفسه ، بإحباط قيادة المقاومة لأكاذيبهم الوقحة ، ولقصصهم «المفبركة» عن قطع قوات المقاومة لرءوس الأطفال والرضع واغتصاب النساء ، وتشبيه سلوك «حماس» بوحشية «داعش» ، والأخيرة لم تخض أى حرب ولا قتال مع كيان الاحتلال ، وكانت غالبا مجرد «دمية» فى يد المخابرات الغربية والإسرائيلية تقتل العرب والمسلمين ، بعكس «حماس» ، التى هى حركة مقاومة فلسطينية ، أيا ما كان خلاف الرأى مع طريقة تفكيرها ، وقد قدمت مثالا راقيا على أخلاق الحرب من المنظور العربى الإسلامى ، وبشهادة أسرى العدو نفسه ، على طريقة ما أعلنته الأسيرة «الإسرائيلية» المطلق سراحها السيدة «ليفشيتز» ، التى فضحت ـ دون قصد ـ كل افتراءات «إسرائيل» والحلف الغربى المعادى ، وتحدثت عن حسن معاملتها وقت الأسر فى أنفاق «حماس» ، وعن توفير كل رعاية ممكنة لها دواء وطعاما وعناية ، حتى فى توفير عبوات «الشامبو» و»البلسم» لكل الأسيرات ، وهو ما جعل الأسيرة المسنة العائدة لأهلها عدوا لدعاية «الإسرائيليين» والأمريكيين والغربيين عموما ، وكأنها صارت عضوا فى كتائب «حماس» النسائية (!) .
قوة لا تقهر
والمعنى فيما جرى ويجرى ببساطة ، أن المقاومة الفلسطينية الجديدة ، فوق إذلالها لجيش الاحتلال ، والتهشيم الكامل لصورته المصطنعة كقوة لا تقهر ، فإنها تكسب أرضا معنوية جديدة ، وتقدم نفسها لأحرار العالم وضمائرهم المستيقظة فى بطء ، تزيده اطرادا وصحوا مذابح العدو وفظاعات حربه ، وتحيى القضية الفلسطينية من موات ، وهو تطور لم يحدث فجأة صباح هجوم المقاومة فى 7 أكتوبر 2023 ، فقضية الاحتلال العنصرى الإرهابى لم تبدأ اليوم ، ومجازره متواصلة بالعشرات والمئات ، من مذابح «دير ياسين» و»الطنطورة» و»كفر قاسم» و»صبرا وشاتيلا» إلى مجزرة المستشفى «المعمدانى» ، وهو قاتل وحارق الأطفال والنساء والمسنين والمساجد والكنائس والمدارس ، و»إسرائيل» هى «أم الإرهاب» الغربى الأمريكى وسليلته ، وما من قوة احتلال لها حق مزعوم فى «الدفاع عن النفس» ، بل الشعب الفلسطينى المبتلى بالاحتلال ، هو صاحب الحق الأصيل فى الدفاع عن النفس ، وفى استرداد الكرامة والأرض ودفع العدوان ، ثم أن «دولة» الاحتلال ليست كيانا طبيعيا بأى معنى ، وهى بلا دستور وبلا خريطة حدود ، و»نتنياهو» المجرم رئيس وزراء العدو ، تحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر الماضى ، وكان يخاطب الكراسى الفارغة أمامه ، إلا من حماته الأمريكيين والغربيين وأتباعهم ، وقدم لهم خريطة «لإسرائيله» ، تضم كل أراضى فلسطين التاريخية ، وبما فيها القدس والضفة الغربية وغزة نفسها ، وجرت هذه العجرفة ـ طبعا ـ قبل هجوم المقاومة صباح السابع من أكتوبر ، فوق قتل المئات فى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، تضاف إليهم المئات اليوم ، إضافة لأسر الآلاف ، واغتيال قادة الأسرى فى سجون العدو ، وتهويد وتدنيس القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، وتغول المستوطنات الاستعمارية فى الضفة الغربية ، وإعلان الرفض «الإسرائيلى» البات لإقامة أى دولة فلسطينية ، وتقويض أى أساس جغرافى وسكانى لهدف إقامة دولة فلسطينية هزيلة ، والسخرية الفعلية اليومية من فولكلور «حل الدولتين» ، الذى يتغنى به أغلب حكام الدول العربية ، وهو يعرفون يقينا ، أنه لا مفاوضات ولا يحزنون ، ويريدون ـ فقط ـ ستر عوراتهم أمام شعوبهم ، وإفساح المجال لحليفهم «الإسرائيلى» وراعيهم الأمريكى المشترك ، وهو ما كان سببا موضوعيا لأخذ الشعب الفلسطينى لقضيته بين يديه ، خصوصا مع تجذر فكرة الثبات على الأرض ، وبدء مرحلة جديدة من سيرة المقاومة العفية بأجيال جديدة ، من «قيامة القدس» و»سيف القدس» إلى «طوفان الأقصى» ، وقد لا يكون «الطوفان» هو الحرب الأخيرة ، إنه ـ بامتياز ـ أول علامات ساعة التحرير المقبل لكل فلسطين ، وبداية النهاية لفاشية وعنصرية وإجرام واحتلال كيان الاغتصاب ، وروح ثقة أكيدة مضافة لعبقرية وإبداع الشعب الفلسطينى ، وقد صارت له الأغلبية السكانية على أرضه المقدسة من جديد .
وكما لم يحدث أبدا منذ نكبة وتهجير حرب 1948 ، وهو ما يعيد القضية إلى سيرتها الأولى ، ويكشف خواء أفكار أزمان الهزيمة ، والبحث عن فتات حق لا عن أصل الحق ، فأصل الحق الفلسطينى فى فلسطين من النهر إلى البحر ، وقد يمد الغرب «إسرائيله» بكل الأسلحة والأموال ، لكنه لا يستطيع إعادة نفخ الروح فى كيانها ، مع نضوب مخازن «الهجرة اليهودية» المستعدة للقدوم إلى الكيان ، ومع تصاعد معدلات التهجير العكسى ، وانكشاف الحجم المريع لمزدوجى الجنسية فى الكيان المصطنع ، واندفاعهم للهروب فى أى لحظة خطر ، فقد تحطمت وتتحطم معنويات المستوطنين ، وسقطت وتسقط خرافة اندماج «إسرائيل» فى البيئة العربية الإسلامية المحيطة ، وتداعت أدوار ووعود اتفاقات «إبراهام» ملعونة الذكر ، وتزلزلت أساطير «جيش الدفاع» الموهوم ، وصارت كل أنظمة التطبيع فى قفص الاتهام ، وصار مطلب تجميد الاتفاقات مطروحا حتى فى الدوائر الرسمية ، فقد بدأت مرحلة تاريخية جديدة .
ودخل الكيان الإسرائيلى فى دورة «العد التنازلى» ، وصولا لإقامة دولة ديمقراطية بأغلبية فلسطينية وأقلية «إسرائيلية» فى مدى سنوات تأتى ، وبسلاسل انتفاضات شعبية وصدامات مسلحة متراكمة وحاسمة الأثر ، وأيا ما كانت نهايات الحرب الجارية اليوم .