22 Apr
22Apr

وصايا ماكرون الثلاث لجيرانه الأوروبيين تمحورت حول تقليل اعتمادهم على الدولار الأمريكي خارج الحدود الإقليمية، وثانيها تجنب الانجرار إلى المواجهة المحتملة بين أمريكا والصين بشأن تايوان، وثالثها تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. وبهذه النصائح ماكرون يوجه دعوة صريحة للتمرد على الولايات المتحدة. فما الذي يسعى إليه ماكرون من رفعه لواء التمرد على «بيت الطاعة» الأمريكي. هذه المقدمة تقودنا إلى سؤال في غاية الأهمية طرحه الكاتب والصحافي بجريدة الأهرام محمد إبراهيم الدسوقي وهو هل يمكن أن يكون النجاح حليفًا لماكرون في مشروعه الثوري هذا، أم أنها لحظة حماس وانفعال عابرة سرعان ما تتلاشى ويعود كل شيء لأصله ويبقى الوضع على ما هو عليه؟. وبحسب ما ذكر دسوقي، من الواضح أن ماكرون بنصائحه الثلاث يطالب أوروبا بكسر طوق الهيمنة الأمريكية على القارة العجوز، ودعاها بإلحاح لتنفيذ ثلاث خطوات يراها البداية التصحيحية والجوهرية لاستعادة الأوروبيين استقلالية قرارهم السياسي بمنأى عن رؤية وخطط واشنطن، ونهج التبعية الذي تفرضه عليهم، وتعبيد الطريق لبناء شراكة إستراتيجية متوازنة ومتكافئة بين الطرفين. وحتى نقرأ ونفهم مايدور في عقل الرئيس الفرنسى علينا أولاً النظر بإمعان وتقييم الأوضاع الداخلية ببلاده، وهي ليست جيدة ولا تبعث على ارتياحه السياسي والأمني، بسبب الاحتقانات المتزايدة جراء سياساته وقراراته غير الشعبية، ومعاناة المواطنين من معدلات تضخم وفقر متصاعدة، حيث تعم المظاهرات والإضرابات أرجاء فرنسا بلاتوقف، ويصاحبها عمليات عنف وتخريب، وشعبيته بين أوساط الجماهير متدنية.
من هذا يمكننا أن نخرج أن ماكرون في أمس الحاجة لتحسين وضعه الداخلي شديد التأزم، ويضغط عليه سياسيا بحدة، ويحاول إنجاز ذلك عبر خبطات واختراقات يُشار إليها بالبنان على الصعيد الخارجي، مثل طرح نفسه كقائد طليعي له نظرة ثاقبة للقارة الأوروبية المفتقدة لزعامة تأخذ بيدها للأمام وترشدها للسبيل الأمثل لمستقبلها سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وينعش ذاكرة الأوروبيين بمآثر ديجول في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حينما ناكف وتحدى الولايات المتحدة كثيرًا آنذاك، وأعلن إنسحاب فرنسا من حلف شمال الأطلسي «الناتو» بقيادة أمريكا. وللإنصاف فإن جانبًا من تحرك ماكرون بهذا الصدد مرتبط برغبته في إفساح مكان متقدم لفرنسا بالعالم الجديد الذي يتشكل بتعددية قطبية، ووسيلته قيادته لأوروبا التي تئن من وطأة متاعبها الاقتصادية والماليه، ولديه تصور بأنه إذا اقتنعت البلدان الأوروبية بجدوى الخروج من العباءة الأمريكية التي يدعو إليها ويشدد عليها فإنها ستصبح ثالث أكبر قوة عالمية في النظام الدولي الحاري تأسيسه، ليس هذا فحسب، بل إنه يعتقد جازمًا بأن التوجه نحو آسيا والإنفتاح على الصين على وجه الخصوص هو الخيار المضمون لتلبية مطلبين لا غنى عنهما.
المطلب الأول التحرر من قيد التبعية الأمريكية الملفوف حول رقبة أوروبا ويكاد يخنقها، والثاني إيجاد مخرج يساعدها في التغلب على همومها ومتاعبها الاقتصادية والمالية التي زادت من حدتها الآثار التابعة لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ولا يخفى كثيرًا من المسؤولين الأوروبيين أن أمريكا زجت بهم في أتون هذه الحرب التي يعتبرونها في الأساس معركة أمريكية ضد روسيا انطلاقا من الأراضي الأوكرانية، ويتهمون واشنطن بأنها تتعمد التأثير على اقتصاد أوروبا بإلزامها على غير رغبتها بسلسلة العقوبات المفروضة على موسكو. ولوحظ أن القارة العجوز لم تأبه مؤخرًا للخطاب الأمريكي المناهض للصين، حيث هرولت ناحيتها بشكل لافت، وحينما زارها ماكرون قبل أسابيع رافقته رئيسة المفوضية الأوروبية، وتمردها على اللاءات والتحفظات الأمريكية يرجع لقراءة واقعية لأحوالها ومصالحها الاقتصادية. فأوروبا تحتاج للصين اقتصاديًا وماليًا، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري الصيني الأوروبي العام الماضي بنسبة 23% ليصل إلى 912 مليار دولار، فبكين أكبر مورد للاتحاد الأوروبي، وثالث أكبر مشتر لمنتجات دول الاتحاد في 2022، وفرنسا تُعد أكبر شريك تجاري للتنين الصيني أوروبيا، فالصادرات الصينيه لباريس بلغت 45 مليار دولار، والفرنسيه 35 مليار دولار، ومن ثم لن تضحي أوروبا بكل هدا خضوعًا لسياسة واشنطن بمحاصرة الصين أقتصاديا لموقفها الداعم لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا.
وفي تقديره أن ماكرون في دعوته يدرك الرفض الأوروبي المتزايد للتماهي مع السياسات الأمريكية على وجه العموم، حفاظًا على مصالحها، لأن هذا التماهي يلحق بها خسائر فادحة ليست مستعدة لتحملها لا الآن ولا مستقبلاً، لكن في الوقت نفسه فإنها لا تسعى للانفصال عن العم سام أيضًا للمحافظة على مصالحها، فالولايات المتحدة المورد الرئيسي حاليًا للغاز المسال لأوروبا، ومعلوم حساسية وحيوية ملف الطاقة في الظروف الراهنة، بالإضافة إلى الجوانب العسكرية المتصلة بالقوات الأمريكية المنتشرة بقواعد أوروبية، وصفقات السلاح، والتعاون العلمي والتكنولوجي. بالمختصر المفيد أن دعوة ماكرون دوافعها الأساسية داخلية، غير أنها تصادف هوى في نفوس الأوروبيين الطامحين لتدشين شراكة إستراتيجية متوازنة مع الولايات المتحدة تبقى علاقات الجانبين في خانة الندية وليس طرفًا يتسيد على الآخر، وإنه حان أوان تبديل الثوب القديم للعلاقة المنسوج بمواد ومعطيات طرأت عليها تغييرات كثيرة لابد من وضعها في الحسبان. يرى محللون إن زيارة الرئيس الفرنسى إلى الصين والتي جاءت بعد أشهر من زيارة المستشار الألماني، تُعد مؤشر على حجم الامتعاض الأوروبي من الولايات المتحدة والتي باتت تستغل أزمات أوروبا خاصة في مجال الطاقة لبيع منتجاتها من النفط والغاز بأسعار مرتفعة. في حين أن بعض التحليلات ترى أن ماكرون بهذه الزيارة يكون قد بدأ في طريق قيادته لأوروبا بعيدة عن الهيمنة الأمريكية، ومسعاه هذا يبدأ من تفادي حالة الذعر التي بدأت في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، بسبب تقارب السعودية مع الصبن، والتي تعد توجها للخروج من تحت المظلة الأمريكية، وهو ما يهدد مستقبل هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد الدولي، وبتراجع هذه الهيمنة سيتراجع الاقتصاد الأمريكي لصالح الاقتصاد الصيني، وهنا ربما يسعى ماكرون للحفاظ على قيمة اليورو، من خلال اتفاقيات مع الصين تجعل من العملة الأوروبية الموحدة «يورو» عملة في التداول التجاري مع الصين إلى جانب اليوان الصيني. كتبت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أن زيارة ماكرون إلى بكين، رغم التوتر بين واشنطن وبكين، تؤكد مرة أخرى أن الحلفاء لاينظرون إلى الأمور من الزاوية نفسها بالضرورة. وبحسب الصحيفة فإن هذه الزيارة قالت «لا» على نحو صريح، لنهج واشنطن الاقتصادي الساعي لتطويق الصين اقتصاديًا، بعد أن أصبحت أكبر منافس للولايات المتحدة.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة