06 Jun
06Jun

قبل نصف قرن من الزمان، في سبعينات القرن الماضي، خلال اشتداد أوار الحرب الباردة بين العملاقين أمريكا والاتحاد السوفيتي، نجح هنري كيسنجر في “دق إسفينٍ” للتفريق بين بكين وحليفتها في موسكو وحقق أماني رئيسه ريتشارد نيكسون بتحقيق اختراق كان يعتبر الأكبر أهمية، إلى جانب سباق التسلح وعوامل أخرى كثيرة، في الصراع الجاري بين واشنطن وموسكو بغية استقطاب المزيد من الدول الحليفة لكلٍ منهما، وقد يكون من العوامل التي أدت فيما بعد إلى تآكل زعامة الاتحاد السوفيتي للمعسكر الاشتراكي ثم إلى تفكك ذلك المعسكر وانفراد الولايات المتحدة خلال الثلاثين عاماً الماضية بقيادة النظام العالمي . أما عن الثمن الذي دفعته واشنطن مقابل موافقة الصين على فك تحالفها مع الاتحاد السوفيتي في سبعينات القرن الماضي فقد كان ثمناً باهظاً بالنسبة لأمريكا ومغرياً جداً بالنسبة للصين، وهو إخراج جمهورية الصين الشعبية من عزلتها الدولية والسماح لها بإشغال مقعدها في مجلس الأمن وطرد تايوان من المجلس وطبعاً من عضوية الأمم المتحدة، واعتراف أمريكا بمبدأ الصين الواحدة، وما تلا ذلك خلال السنوات والعقود الماضية من اعتراف أكثر من مائة دولة أخرى بالصين الشعبية وقطع علاقات تلك الدول مع تايوان
أما الآن فتعترف جميع دول العالم بالصين الشعبية (باستثناء 13 دولة تمكنت تايوان من استدراجها للاعتراف بها مقابل مساعدات مالية مجزية).
لم يكن هنري كيسنجر، الذي بلغ مؤخراً المائة عام بالتمام والكمال من عمره المديد !!!، يظن أن الصورة ستنقلب بعد نصف قرن وستصبح الصين، التي كانت ضعيفة ومعزولة، ستصبح المنافس الأكبر للولايات المتحدة على زعامة النظام الدولي بعد أن خطت خطوات سريعة “فرط صوتية” في تنمية اقتصادها منذ عام 1978 عندما بدأ الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ Deng Xiaoping بتطبيق مشروعه بالانفتاح على العالم وحقق نسبة نمو اقتصادي تجاوزت في معظم السنوات 10 بالمائة حتى أنها وصلت عام 1984 إلى 15 بالمائة، في حين أن معدل نمو الاقتصاد الأمريكي منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم لم يتجاوز 1.2 في المائة . وقد انعكس هذا النمو الاقتصادي الهائل على تطوير الصين لأسلحتها النووية والتقليدية حتى أصبحت تملك من السفن الحربية عدداً يتجاوز ما تملكه الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى قدرات تفوق قدرات واشنطن على بناء السفن الحربية، وذلك باعتراف وزير الأسطول الأمريكي كارلوس ديل تورو Carlos Del Toro، كما شرعت الصين مؤخراً في نشر قطع أسطولها في أنحاء مختلفة من العالم بشكلٍ غير مسبوق بعد أن بنت لنفسها تحالفات وشراكات مع دول عديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بما في ذلك استثماراتها في الشرق الأوسط التي بلغت حتى الآن أكثر من 215 مليار دولار، ووضعت خطة لبناء طريق بري وبحري يصل الصين بآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا وحتى الأمريكتين وهي فكرة مستوحاة من طريق الحرير القديم الذي كان قائماً منذ القرن الثاني قبل الميلاد وبقي حتى القرن السادس عشر إلى أن استبدل بطريق الحرير البحري . وعليه فقد انتشرت استثمارات الصين الخارجية حتى بلغت بمجموعها حوالي 1.3 تريليون دولار من بينها استثمارات في الولايات المتحدة وأوروبا بقيمة 625 مليار دولار . أما الاستثمارات الأجنبية في الصين حسبما ورد في تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد UNCTAD) فقد وصلت في عام 2021 رغم التأثير السلبي لجائحة كورونا إلى 163 مليار دولار، وبهذا فقد تجاوزت في حجمها الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة التي بلغت 134 مليار دولار.
وهكذا عملت الصين على بناء اقتصاد قوي أصبح منذ عام 2011 في المرتبة الثانية عالمياً بعد الاقتصاد الأمريكي وتطمح بكين إلى نقله إلى المرتبة الأولى قبل نهاية العقد الحالي، تلا ذلك تعزيز الصين لترسانتها العسكرية النووية وترسانتها التقليدية، كما أشرت أعلاه، وتحقيق بعض طموحاتها في غزو الفضاء إذ تستثمر الصين مليارات الدولارات للحاق بركب الدول الأكثر تقدماً في هذا الميدان وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وإلى حدٍ ما الاتحاد الأوروبي، إذ أرسلت الصين مركبة روبوتية إلى سطح القمر وأخرى إلى المريخ كما أرسلت محطة دراسات فضائية، وتواصل العمل لإطلاق رحلة مأهولة إلى القمر .
أما عن الدبلوماسية الصينية فقد حققت نجاحاتٍ باهرة ومتعددة في الآونة الأخيرة لعل من أهمها في منطقتنا الاتفاق السعودي الإيراني لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين (مقالي في رأي اليوم في 12 آذار/مارس 2023)، إضافة إلى إبداء استعدادها للتوسط في القضية الأكثر تعقيداً الناجمة عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قمع وظلم وانتهاك لحقوقه المشروعة (مقالي في رأي اليوم بتاريخ 24 نيسان/أبريل 2023) .
وفي سعيها لتحقيق المزيد من الإنجازات تحاول الدبلوماسية الصينية صياغة فكرٍ دبلوماسي جديد تقول وسائل الإعلام الصينية أنه من بنات أفكار الرئيس الصيني شي جينبنغ وهو “دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية” ربما على غرار “الإشتراكية ذات الخصائص الصينية” والتي تركز، استناداً إلى صحيفة “الصين اليوم”، على التمسك بمبدأ “التنمية السلمية” بغية تحقيق هدفين استراتيجيين هما أولاً “تأسيس علاقات دولية جديدة” وثانياً “دعم بناء رابطة المصير المشترك للبشرية”،
وتضيف الصحيفة نقلاً عن كتاب صدر في يونيو 2022 بعنوان : “الدبلوماسية الصينية في فكر شي جينبنغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد” أن دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية تسعى إلى دعم مشروع بناء “الحزام والطريق” و”المشاركة في الحوكمة العالمية” و”المساهمة في القيم المشتركة للبشرية”. وهذه إشارة واضحة إلى ضرورة إعادة تشكيل النظام العالمي أحادي القطبية الذي تزعمته الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة المنصرمة . وبناءً على ذلك تتحدث الدبلوماسية الصينية في الآونة الأخيرة عن الدبلوماسية الأمريكية القسرية (Coercive Diplomacy) وتلقي باللائمة على الاستفزازات الأمريكية للصين لا سيما حول مضيق تايوان وفي بحر الصين الجنوبي وفي المحيطين الهندي والهادي بما في ذلك التحالفات التي تعقدها واشنطن مع دول المنطقة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين وغيرها .
أضف إلى ذلك ما حققته الدبلوماسية الصينية من نجاحات تمثلت في عقد تحالف وثيق مع روسيا دون أن يؤدي ذلك إلى تدهور علاقات بكين مع أوروبا، رغم موقف الاتحاد الأوروبي المنتقد للصين بسبب عدم إدانتها للحرب الروسية على أوكرانيا، وكذلك ما حققته الدبلوماسية الصينية في ازدياد عدد الدول التي انضمت إلى منظمة شنغهاي بعضها بصفة مراقبين (أفغانستان وبيلاروسيا ومنغوليا) وبعضها الآخر بصفة شركاء في الحوار (مصر والسعودية وتركيا وأرمينيا وأذربيجان وكمبوديا ونيبال وسريلانكا)، كذلك أدى نجاح الدبلوماسية الصينية إلى الترويج بقوة في الآونة الأخيرة لمجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) حيث طلبت أربع دول عربية رسمياً الانضمام إلى المجموعة هي : السعودية والإمارات والجزائر والبحرين إضافة إلى إيران، كما شاركت 12 دولة مؤخراً، بينها مصر والسعودية والإمارات وإيران وكوبا والكونغو الديمقراطية وجزر القمر والأرجنتين وبنغلادش وأندونيسيا وغينيا بيساو وكازاخستان، في محادثات حول سبل تعزيز علاقاتها مع البريكس .
في ظل ما ورد إعلاه تأهلت الصين بجدارة، وباعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، ألد خصومها، إلى منافسة واشنطن في زعامة النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكل، والذي قد يكتمل تشكله بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية التي تشهد مزيداً من التوتر وتفاقماً يوماً عن يوم . ولعل الأمر الذي لا خلاف عليه هو دور الصين القيادي في النظام العالمي الجديد الذي لن يكون أحادياً بعد اليوم وسيكون متعدد الأقطاب وتكون الصين أحد هؤلاء الأقطاب .


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة