31 Dec
31Dec

هذه المرأة استجمعت قواي وعزمت على الكتابة في الموضوعات المسكوت عنها ، التي يُطلق عليها بحسب التعبير الشهير ( الخطوط الحمر ) ، وهي المناطق التي لا يجوز لك تجاوزها ، وان أخذتك الحمية والجرأة فعليك تحمل تبعات ما تكتب . قد يستغرب زملائي من قراري ، بخاصة الذين نصحتهم بضرورة الحذر في الكتابة الصحفية ، فطقس الكتابة مغر ، ويزيل من ذهنك الكثير من المحاذير ، يدفعك لقول أشياء ما كنت لتقولها لو كنت خارج هذا الطقس اللذيذ بأجوائه والخطير في تداعياته ، بالرغم من معرفتي التامة بأن على الكاتب التحلي بالشجاعة والجرأة في طرح آرائه ، والا فان كتاباته ستكون باهتة كوجبة غذاء غير مملحة ، ذلك ان ملح المقال يكمن في الرأي الجريء ، ولا قيمة لمقال بلا رأي اطلاقا ، فالمقال في جوهره هو الرأي ، ولكي يعطي بعض الكتاب لمقالاتهم ملوحتها يغرقونها بالمثير من المعلومات تغطية لخلوها من الرأي الذي يتعذر ابدائه في الموضوعات التي تصنف على المناطق الحمراء .
وقد نعذر هذا البعض لا سيما في السياسة ، ذلك ان البلاد غير المستقرة يغدو الكاتب كالسائر في حقل ألغام لا يدري في أية لحظة ينفجر أحدها ، لاسيما في الدول حديثة العهد بالديمقراطية كبلادنا ، فاذا كان في الأنظمة الشمولية ثمة حقل او حقلين من الألغام شديدة الانفجار الى حد الكارثة ، فان الألغام في الديمقراطيات الناشئة تحيط بك من الجهات الأربع ، وعليك أن تتحسب في نقل خطواتك ، لأن الايمان بها مازال لم يرسخ في العقول بعد ، مثلما يرى الشموليون في الانتقاد انتقاصا من أشخاصهم او محاولة للنيل من مكانتهم او تقويضا لنظامهم او تحريضا للناس عليهم ، مع ان هدف الكاتب هو البناء وتصويب المسيرة ولفت الانتباه الى مواضع الخطأ .
علينا ألا نذهب بعيدا ، ففي قلب الديمقراطيات الناشئة روح دكتاتورية صارمة لن تتلاشى الا بعد وقت طويل قد لا نتحمله نحن الكتاب العجولين بطبعنا للوصول الى الأهداف ، لذلك لا تستغربون تشظي سلطة الدكتاتور الى أكثر من سلطة في هذه الديمقراطيات ، فتأخذ من الحريات شعاراتها وتحتفظ روحها بالديكتاتورية البشعة لتتجسد في أكثر من شخص ، وليس بمقدورك أن تنتقد منهم أحدا ، حتى وان كنت ناصحا او محبا وتريد له خيرا ، فنصيحتك تفسر على انها تقليل من شأنه بأنه لا يفهم في السياسية شيئا ، فهو في عين نفسه وأنصاره عارفا بكل شيء ، ومدركا لكل المواقف ، وما أنت الا ضئيل ازائه ، فما بالك تضع نفسك ندا له فتسمح لشخصك بتصويب مواقفه وتصريحاته وقراراته ، ومن أنت يا هذا ، وقد يحرمك حق الحياة ، التي قُدر لها ألا تتكرر .
لا تقتصر المناطق الحمراء على السياسية ، بل تمتد الى الظواهر الاجتماعية التي تصنف على نوعين : أحدهما ظاهر والآخر غاطس ، واذا كنت تجد سهولة في الكتابة عن الظاهر ، فان الحديث عن الغاطس غير مقبول اجتماعيا او دينيا ، مع ان ظواهره تنهش في جسد المجتمع ، وتسير به نحو مسارات لن تقود سوى للهاوية ، وجل عدم القبول تحكمه أعراف بالية وخجل مرضي وتفسيرات دينية ضيقة من أشخاص ليس لهم باع طويل في جوهر الدين .
لا أريد عرض أمثلة معينة في هذا المقال ، لكي لا يُفسد هذا العرض ما أعتزم كتابته في مقالاتي القادمة ، وأتمنى أن يظل طقس حماسي قائما ، ففي غيابه سرعان ما يتلفت كاتب متواضع مثلي الى ما يحيط به ، فيتردد في بداية الأمر ، وفي الأخير ينتهي الى السير ( جنب الحيط ) كما يقول المصريون ، والكتابة بموضوع كالذي نصحني به أحد المحافظين في النظام السابق عند سألته عن ظاهرة تهريب النحاس فأجابني : اكتب عن العادات والتقاليد ودعك من التهريب ، فعدت الى مكان عملي مستغربا ، وعندما بحثت عن دفتر ملاحظاتي الذي دونت فيه ما يخص الظاهرة لم أجده في حقيبتي  .


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة