27 May
27May

معضلات السياسة كثيرة. هى بطبيعتها أقرب إلى الفن منها إلى العلم المحكم المنضبط. لذلك، فإن ممارستها تقتضى قدرا من الموهبة جنبا إلى جنب مع الخبرة المتراكمة. يُمكن أن يتعلم أحدهم فنون السياسة، وهكذا كان الحال فى بلاط الملوك والحُكام، حيث يتدرب الأمراء والورثة منذ نعومة الأظفار على فنون الحكم. غير أن التدريب والتعليم وحدهما لا يكفيان لتكوين سياسى استثنائى. لابد من قبس من الموهبة كذاك الذى يُلهم الفنانين الكبار فيمنحهم الحضور والألق. يحتاج السياسى أيضا إلى موهبة نادرة- لا يُمكن تلقينها فى قاعات الدرس- فى الحكم على الأمور والمواقف. السياسى الاستثنائى مثل الفنان الموهوب، يملك قدراتٍ لا يُمكن الوقوف بالضبط على مصدرها أو كنهها، أو تفسيرها بشكل علمى.
هذه الطبيعة التى تسم السياسة، كنشاط بشرى مرتبط بالاجتماع الإنسانى وبوجود الجماعة، تجعل منها ممارسة صعبة ومُفعمة بالمعضلات. ثمة معضلة شهيرة عن علاقة الأخلاق بالسياسة، وما إذا كانت السياسة نشاطا له قواعده الخاصة و«أخلاقياته» الخاصة أيضا، وبحيث تصدق مقولة ميكيافيلى الشهيرة من أن الغاية تُبرر الوسيلة. هناك معضلة أخرى عن فائدة السياسة نفسها، وما إذا كانت نشاطا يخدم الناس حقا أو يخدم القائمين عليه ويُثبت سلطان ومزايا القِلة فى مقابل الكثرة البائسة. أما المعضلة الأكبر، من وجهة نظر كاتب السطور، فتكمن فى أن السياسة - فى حقيقة الأمر- هى فن يتعلق بقراءة المستقبل.
نعم.. الحرفة الأساسية لدى السياسى هى «الحكم على الأمور». الحكم على الأحداث والمواقف والأشخاص. سلاح السياسى هو قدرته على قراءة المواقف والأشخاص، قراءة نافذة مُعمقة لاستخلاص حكم ما. لكن كيف يقرأ السياسى المواقف والأشخاص؟.
أما قراءة المواقف، فجوهرها القدرة على تصور تطور موقف ما. امتلاك الخيال الذى يُمكن السياسى من مد خطوط على استقامتها واستخلاص المآلات والسيناريوهات المحتملة، ثم الخروج بحكم على «الوضع القائم» الآن، على أساس من هذه التصورات المستقبلية. وأما قراءة الأشخاص، فهى أصعب كثيرا. على أنها تتبع نفس القاعدة تقريبا. السياسى الماهر هو ذاك الذى يستطيع النفاذ إلى العمق الإنسانى لدى شخصية ما، وأن يتصور سلوكها وردود أفعالها فى سيناريوهات مستقبلية متخيلة. وعلى أساس من هذا التخيل، يُقيم السياسى فائدة هذا الشخص من عدمها، ومدى خطورته، وما إذا كان عدوا محتملا أم حليفا منتظرا أم محايدا. تتطلب قراءة المواقف والأشخاص، والحال هذه، قدرة استثنائية على النفاذ - بالبصيرة والخيال- إلى المستقبل. السياسى يُسافر، كل يوم تقريبا، إلى المستقبل ليُصدر أحكامه على الحاضر!.
تشرشل، رئيس الوزراء البريطانى، تصور سيناريو مستقبليا تُباشر فيه ألمانيا غزو أوروبا، وأصدر حكمه هذا بُناء على تقييم لموقف ألمانيا وأيضا لشخصية هتلر، واحتمالات تطورهما فى المستقبل القريب. وعلى أساس من هذا الحُكم اتخذ تشرشل مواقفه السياسية فى الثلاثينيات، وصولا إلى مهاجمة الاتفاق الذى أبرمه «تشمبرلين»، رئيس الوزراء البريطانى فى ذلك الوقت، مع هتلر فى ميونخ فى 1938، والذى رأى فيه الأخير فرصة لجلب «السلام فى زماننا»، فيما لم يرَ فيه تشرشل سوى الخضوع والاسترضاء. وقال مقولته الشهيرة من أن من يقوم بالاسترضاء يُشبه من يُطعم التمساح آملا فى أنه سيؤجل التهامه إلى آخر المطاف!.
اليوم، وبحكم ما نعرفه عما جرى بالفعل فى التاريخ، نعرف أن تشرشل كان على صواب وتشمبرلين كان على خطأ. سهلٌ علينا أن نُصدر هذا الحكم اليوم ولدينا المعرفة بما جرى بالفعل. صعبٌ جدا أن يُدافع سياسى، مثل تشرشل، عن رأيه وحُكمه فى وقتها، بينما الحدث كان فى علم الغيب. التنبؤ بالمستقبل أمر بالغ الصعوبة، ليس فى السياسة وحدها، لكن فى أى مجال من مجالات الحياة. السبب الرئيسى أن الحدث المستقبلى يتكون ويتخلق فى عدد كبير جدا من المسارات. صعبٌ على الذهن البشرى الإحاطة بكافة المسارات والتفريعات التى تتفاعل وتتقاطع على نحو مُعقد لتُنتج فى النهاية حدثا.
ثم هناك أيضا عامل الصدفة. فلو أن المسارات والتفريعات تجرى بنظامٍ محدد أو بنمط متكرر لأمكن- نظريا على الأقل- الإحاطة بها والتنبؤ بتطورها. على أن الأحداث فى السياسة، كما فى الحياة، تُحركها نزعاتٌ نفسية وانفعالات شخصية وتقلبات لا يُمكن التنبؤ بها. وهنا تظل الصدفة، أو الحدث غير المتوقع، احتمالا واردا.. بل يصعب تصور حدثٍ سياسى كبير لم تلعب الصدفة دورا فى تكوينه بصورة أو بأخرى. والصدفة هنا قد لا تكون بالضرورة شيئا كبيرا كاغتيال زعيم سياسى أو وقوع زلزال فى لحظة فارقة.. لكنها قد تتمثل فى شىء عادى جدا، كفشل موظف فى قراءة برقية سياسية مهمة على نحوٍ صحيح لأنه وصل إلى مقر عمله متأخرا.
من يُحلل، على سبيل المثال، حدثا كبيرا مثل هزيمة 1967 سيقف على الكثير من «الصدف الصغيرة» التى صنعتها. وهناك من يُشير، مثلا، إلى أن اختيار مدينتى «هيروشيما» و«ناجازاكى» كأول أهداف للقنبلة النووية الأمريكية جاء بمحض الصدفة، فالأهداف فى مبدأ الأمر تضمنت مدينة «كيوتو»، وهى العاصمة التاريخية لليابان. لكن وزير الحرب الأمريكى «ستيمسون» جادل بقوة ضد هذا الخيار. السبب أنه كان قد زار المدينة أكثر من مرة، بل ربما قضى «شهر عسله» فيها، ويحمل تقديرا كبيرا للإرث الحضارى الذى تضمه. هذا الرجل، وبواقع هذه الصدفة العجيبة، أقنع ترومان بشطب «كيوتو» من قائمة المدن التى سيتم استهدافها بالسلاح الجديد!. وإذا سلمنا بأن واحدة من معضلات السياسة الرئيسية تكمن فى قراءة المستقبل، بكل ما ينطوى عليه من صُدف غير متوقعة يستحيل تصورها، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل المعضلة الأخطر هى تصور المستقبل الذى لم يقع! نعم، فالسياسى يدفع الناس فى مجتمعه إلى اتخاذ مسار معين بواقع قراءته للأحداث وحكمه على الأمور ومآلاتها المستقبلية. ولكن متى اتخذت الأحداث هذا المسار بالفعل، يصبح من الصعب جدا إقناع الناس بالبدائل الأسوأ التى كان يُمكن أن تؤول إليها الأحداث لو أن الأمور سارت فى طريق مختلف. صعب على السياسى، مثلا، أن يقنع الناس بأن الخسائر المروّعة للحرب التى دافع عن خوضها تصغر وتهون أمام الاحتمالات الأخرى. صعبٌ عليه أن يقنعهم بأن المشقة الاقتصادية التى يعانونها اليوم هى أهون الشرين، وأن سيناريو آخر كارثيا كان ينتظرهم لو أنهم اتخذوا طريقا اقتصاديا مختلفا.
الرئيس الأوكرانى «زالنسكى»، على سبيل المثال، قاد بلاده نحو التصدى للغزو الروسى وتحمل تبعات الحرب كبديل عن الاستسلام. اليوم، وبعد عامين على اندلاع الحرب، تبدو الكلفة أكبر من أى احتمال على المجتمع الأوكرانى. يقتضى الأمر قدرة سياسية هائلة لدى «زالنسكي» لإقناع الناس بأن هذه الكلفة تظل أقل من ثمن الاستسلام على المدى الطويل.
ها هنا تبدو المعضلة الكبرى للسياسة. هل لا تتعامل مع المستقبل فحسب، وإنما مع المستقبل الذى لم يحدث.. أو مع «الكلاب التى لم تنبح»، بتعبير شرلوك هولمز الشهير.. لذلك تظل السياسة فنا لا علما. وتظل ممارستها مقرونة بمواهب غير تقليدية فى قراءة المستقبل وإقناع جماعة بشرية ما بطريق دون غيره، ثم إقناعها بأن هذا الطريق رغم مثالبه- ولكل طريق بالتأكيد مثالبه- يظل أفضل البدائل، أو أقلها سوءا!.


*نقلا عن المصري اليوم


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة