بفعل تسارع الزمن، ونتيجة لدخول عناصر لم تكن في حسبان احد، اختفى ساعي البريد. انه أكثر شخص كان الناس تنتظره بشغف ولهفة لاستلام رسالة من الأحباب أو الأقرباء وكان يمثل إحدى أيقونات ذاك الزمن بجدارة.كان الرجل يوزع بريده بكامل هيأته الرسمية على دراجته الهوائية وحقيبته الجلدية المتهرئة احياناً، أو عندما يأتي سيرا على أقدامه وهو الأمر الذي ظلّ يواصل مهنته دون توقف ودون تبرم أو تأفف رغم معاناته أو حجم الجهد الواقع عليه. انه يبعث السرور والسعادة في نفوس المستلمين للرسائل، وهي بالتأكيد كانت نقطة التواصل الرخيصة و في متناول الجميع. ولا تختلف دولة عن أخرى، فالكل كانت تهتم بساعي البريد، لكونه الوسيلة الوحيدة في توزيع الرسائل لعشرات السنين. لكن تلك المهنة اختفت وتلاشت وصار ساعي البريد أحد رموز التاريخ ولا يتذكره سوى من عاش تلك السنوات، وكذلك اختفى معه الهاتف الأرضي الذي كانت نغمات رنينه شاهدة على زمن مرّ وانتهى. انه زمن التكنولوجيا الانفجارية وغزو الأنترنت لحياة البشر ودخول البريد الإلكتروني ومنصات التواصل الإجتماعي والهواتف الذكية. انها ثورة اطاحت بكل اختراع قديم وتراثي وتاريخي، وراحت تدير حياتنا وفق المعطيات المعاصرة التي لا بدّ من انتهاج اساليبها. هذه الثورة التكنولوجية كأنها طريق من مسارين، الأول يوصلك إلى منطقة الأمان والفائدة والنهل من المعارف والأفكار والرؤى التي لم تكن متاحة إضافة إلى تقليص المسافات الجغرافية بين البشر. اما المسار الثاني فهو المشكلة الحقيقية الشاخصة اذ يؤدي إلى حالات سلبية وغير مفيدة بل ضارّة جدا.. بل إنه طريق الخراب الموصل إلى الخسارات والمرارات التي تلاحق كل من إرتاد هذا المسار. من هنا تكمن المشكلة في أولياء الأمور لأن اكثر من يتكبد الخسارات هم فئة الشباب من كلا الجنسين وربما الاطفال الأبرياء ايضا. ونقول أولياء الأمور لأنهم اكثر معرفة في التعامل مع أبنائهم، وهي مهمة صعبة بلا شك ولكنها مطلوبة وضرورية للحفاظ على التماسك الأسري وبالتالي عدم انفلات المجتمع. فقد يفضي الإنشغال الطويل والإدمان إلى الإنعزال عن الأسرة والمجتمع وربما اكثر من ذلك عندما يحدث إختراقاً للمنظومة الأخلاقية، فيخلق بوادر شريرة لدى بعض النفوس. اضافة إلى أن التعلق غير الطبيعي بشاشة الهاتف، ربما يضعف النظر وخاصة عند الأطفال ويصنع الكآبة والانفراد والخلوة مع النفس وهو امر صعب جدا لهم. والأدهى انه طريق متاح وسهل للتحرش وقد يجلب وبالاً للأسرة وللشخص نفسه من كلا الجنسين. فالأنترنت هو منجز تاريخي هائل نقل البشرية من عوالم قديمة متباطئة، إلى عوالم اكثر توهجاً وأكثر اضاءة ومعرفة اسرار الكون والانسان والحياة. ولكن للأسف فكل شيء مفيد لابد له ان يقع في ايدي الجهلة الذين يحولون إتجاهه إلى الجانب المظلم المليء بالمرارة والخذلان. ولي الامر ربما وحده لا يكفي في رسم خطط تربية الأبناء في ظل هذه المرحلة الحرجة، وربما تكون المدرسة مكملة للتربية الاسرية وهذا سيساهم كثيرا في بث روح التوعية والأنشطة الايجابية. قد يترحم البعض على مهنة ساعي البريد لما وجدوه ولمسوه من اضرار التقنية الحديثة. وربما يترحم البعض على ساعي البريد باعتباره ادى مهنته بكل محبة ومهنية لبث السعادة للناس. المعلوم ان الرسائل قد تحولت إلى الماسنجر أو الواتساب أو البريد الإلكتروني وغيرها من تطبيقات التواصل الاجتماعي ولكنها ستظل تصارع النوازع البشرية وتختبر الإرادات. وسيئ الحظ من يقع فريسة لها وهو ما يجعل من ثورة الأنترنت، ثورة ناقصة ومليئة بالسلبيات للذين لا يفقهون مديات العلم المعاصرة ومفاهيم التطور المتسارع والانفتاح على العوالم التي كانت مجرد أحلام لا أكثر.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"