29 Oct
29Oct

إنها ليست حربًا عادية، ولا إبادة جماعية همجية ضد البشر، ولا تكتيكات حربية جديدة، وإنما هي حرب اجتثاث البشر من الأرض والجغرافيا، وقلع الجذور الفلسطينية من باطن التاريخ، وقتل روح المقاومة والحياة، ومحاولة طمس خرائط القيم والثقافة والإنسانية.
إنها حرب مرضى الأنفس، المتأصِّلة بعقدة النقص، والسادية المريضة التي تتفنن بالقسوة والعدوان المتكرر، والعنف الجسدي والنفسي، واللذة في تعذيب الآخرين.
حرب الدماء الغزيرة، والتلذُّذ بها؛ حيث الأرواح الشريرة مسكونة في جيناتهم وسلوكهم وأفعالهم (الماضية والمضارعة والمستقبلة!). حرب الهمج في زمن الظلم والسقوط الأخلاقي، والعُهر الدولي، وأكذوبة الديمقراطية المزيفة وحقوق الإنسان.
ومع الأسف، لم تُعلِّمنا الدروس السياسية، وفنون المقاومة، حكمةَ القتال في (الوقت المناسب)، واستغلال الفرص الضائعة، ومنطق الربح والخسارة بلغة رياضيات الواقع، وجبر التضحيات المهدورة. فليس المهم أن نقاتل من أجل القتال، ونستعرض قواتنا وجهادنا وبطولاتنا، وشعبنا يُباد بالجملة، لأن الحكمة تقول: إن العقل في هذا الزمن التعيس مطلوبٌ لقياس طول وعرض قرار الحرب، وإعادة الحق المغتصَب، وإلا فإن الكارثة ستكون أكبر من مغامرة البطولات السريعة!
لا تكفي العاطفة الجيّاشة الملتهبة، ولا الأحاسيس والنيات الوطنية المتَّقدة لإعلان (حرب)، مثلما لا ينبغي أن تغرينا الصفقات السرية، والتعُّهدات البهلوانية، والمشاريع الخادعة للنضال والجهاد المبطنة بالمصالح التي تقذفنا إلى نار العدو، والتهلكة غير المحسوبة. لا بد يا أولي الألباب، من رأسٍ يفكر ويُخطط وينظر إلى المستقبل لحماية شعبه؛ حتى لا نُلقي بأنفسنا في مغامرة تهلُكة جديدة، تصيبنا بنكبة أخرى أكبر؛ فنعود إلى الوراء عشرات السنوات!
نعم، من حق الشعوب تحرير أراضيها، ومنهم الفلسطينيون الذين وقعوا منذ نكبتهم الكبيرة في شَرَك المزايدات السياسية للدول والأحزاب، وصفقات البيع والشراء الخاسرة، فصارت القضية الفلسطينية، وكأنها عروضٌ في مزادات العالم، وتجارة سياسية تتلطَّخ بدماء الأبرياء.
صارت فلسطين مهاجِرة، مُجزَّأة بالخلافات بين أهل القضية، ومظلومة من أولاد العم. وتذكَّروا المقولة المؤثرة للشهيد غسان كنفاني: إذا كُنا مدافعين فاشلين عن القضية، علينا تغيير المدافعين، لا القضية)
لا أدرى إذا ما كنت على خطأ، فإن ما يجري في غزة هي دراما حزينة، لا يستوعبها العقل ولا المنطق؛ اختلطت فيها المعاني المتناقضة، والتفسيرات المختلفة، والانقسامات الخطيرة. فلا نتصور كيف تُقاتل مدينة غزة لوحدها وبجوارها مدينة فلسطينية تحكمها السلطة الرسمية، وهي تتفرج عليها، وتقف معها بالبيانات الرنانة، وربما تنتظر موعد صدور شهادة موتها! أنها نكبة النكبات، فأشعر بالضيق لأنني لا أجيد تفسير المعروف والمفهوم والمستوعَب!
لا أدرى إن كان هناك صراعٌ بين الحكمة وسمو الرشد، والتهور والحماسة، في اتخاذ القرار بين الإخوة، وعداوة التضامن، والتلاقي على المشتركات؛ لكنني أعرف أن جماعة غزة لهم أجنداتهم الخاصة، واجتهادهم في حل القضية، وارتباطاتهم الخارجية التي كثيرًا ما تكون مؤثرة في فعلهم وسلوكهم وردود أفعالهم.
ما يحدث اليوم: أنهم يقاتلون لوحدهم، والآخر من الخارج يتفرج عليهم، ويُشعل بعض الجبهات بالألعاب النارية بـ(خداع) الصور والكلمات، وتضليل الأفعال بالأناشيد الحماسية! ما يحدث اليوم: أن العرب لا يستنجدون لإخوتهم وأبناء عمومتهم، وللأطفال المشردين في شوارع غزة. أحياء (أموات) في مقابر الذل والصمت، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا (يخجلون).
غزة لوحدها تقاتل لتغسل بدمها عارَ الأمة المريضة، وهي طائر الفينيق الكنعاني الذي ينهض من بين الرماد، وهو لا يموت أبدًا! هي الإمام والأمام الحي لوحدها في هذا الزمن، فتعجن طعامها من ركام الأرض وملح البحر. والحكمة الفلسطينية تقول: إن أشجار غزة تموت واقفةً أو سحقًا بأسنان الجرافات الإسرائيلية.
لم تَمُت غزة بالصواريخ الذكية، وهي إن مرضت؛ فإن روحها ستبقى في جينات الجسم الفلسطيني تنمو بالانشطار الروحي. يموتون و(هي لا تموت)، تنزف وتتوجع و(هي لا تموت). وهي تهَبُ دمَها لمن ليس له شرفُ الدم. انقطع عنها اتصال الدنيا، لكن لها اتصالاً بالسماء، في الصباح وفي المساء!
غزة تقاوم، وتنتصر للحياة لوحدها!، ونحن نتفرج على موائد الطعام، ونشجب بالكلمات والصراخ، ونحزن للطفل الفلسطيني المشرد الذي يبحث عن والديْه، ونأسف للجثث الملقاة في الشوارع، ودمار البيوت، ثم نغطُّ في نومٍ عميق لنستيقظ صباحاً على نكبة جديدة! وما أكثر النكبات التي لم نتعلم منها سوى الصراخ والأناشيد والعمالة و….جلد الذات!

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة