28 Oct
28Oct

مذكرات قابلة للنسيان الحلقة (5)
تركتُ منطقة الرحمانية خلف ظهري، لم أقرّرْ إلى أين أمضي، وجهُ صديقي حسنين غطّى على بصري، ما عدتُ أرى شيئا سواه، كانت عيناي مسلّطتان على أبواب أكواخ الرحمانية، علّ وجهه يطل من أحد هذه الأبواب المغلقة، تمنيتُ أن يحدث هذا وَهْمًا أو حلمًا أو في معجزة، لكن ما تمنيته أصبح في عِداد المحال، وهذا درس آخر تعلّمته مبكرا، كل الأشياء التي تنتظرها لا تأتي في الوقت الذي تحتاجها فيه، وإنما تأتيك (حتى الأشياء الماسّة) عندما لم تعد بحاجة لها، وهذه من المفارقات التي ستلازمني طويلا، كل شيء أريده لا يأتي في وقته، وكل شيء لا أريده يضع نفسه أمامي في كل الأوقات...
خطواتي تأخذني كما تشاء هي وليس كما أشاء أنا، وجدتُ جسدي النحيف يتمشّى على ضفة نهر (الحسيْنية) الذي يخترق بساتين مدينتي، هذا النهر بعيد عن الحي الذي أسكنُ فيه، ولا أعرف ما الذي دفعني للذهاب إليه، كانت البساتين الغنّاء تنتشر على جانبيّ هذا النهر الذي ذكّرني بقريتي (أم البط) وبتلك الترعة (النهر الصغير) الذي يمر من باب بيتنا الطيني مباشرة، لم يبعد كوخنا أو بيتنا في قرية أم البط سوى مترين يشكلان أحد جرفيّ (الترعة) أو كما كنا نسميها (الدوّارة)، كان مجرى المياه فيها سريعا، ولونها أصفر ثخين مخبوط بالغرين أو الطين (الرملي المائل للاصفرار) وكان الناس في القرية يسمون لون الماء الأصفر بـ (الدِهْلَه)، كان ماءً آنذاك غنيا بالمواد التي تغذّي جذور الأشجار أفضل الغذاء (سماد طبيعي وليس سمادا مصنّعا)، بساتين قريتنا الواسعة الكثيرة المترامية كلّها تشرب من هذه الدوّارة (الترعة الصغيرة) التي تكاد تلامس بمائها باب بيتنا الطيني.
فجأة وكما لو أنني في حلم سمعتُ صفقةَ أجنحةٍ قريبة، نظرتُ إلى اليمين نحو بساتين الكروم، كانت أثمار البرتقال تلمع تحت أشعة الشمس، برتقال ريان أصفر يكاد عصيره اللذيذ يتدفق عاليا كالنوافير، وبعد صفقة الأجنحة بقليل، سمعتُ طرطشة مياه فذهبتُ ببصري جهة الطرطشة، إلى قلب النهر الذي أسير على جرفه بهدوء غريب، رأيتُ سمكة ناعمة تلبطُ في وسط النهر، ظهرها يلمع نظيفا ومغريًا، فكرتُ أن أقفز إليها لأصطادها، لكن مجرى المياه كان عجولًا متلاطما، تركتُ فكرة اصطياد السمكة، لكنني جلستُ على الجرف وأطلقتُ بصري فوق صفحة المياه، فكّرتُ أن هذا النهر الذي يسقي بساتين مدينتي يشبهُ تماما تلك الترعة التي كانت تسقي بساتين قرية (أم البط)، ورغم أن حياة الناس في تلك القرية قائمة ومستمرة بسبب مياه الترعة أو الدوّارة، إلا أنها ذات يوم كادت أن تقتلني.
كان أبي يخرج إلى زرعهِ مبكّرا، مع الشعاع الأول لقرص الشمس، يؤدي صلاة الفجر ويغيب تحت جنح الغبش، وكنتُ أتمنى الذهاب معه للزرع، مرة واحدة رافقته، وكانت في حملة حصاد، ساعدهُ فيها عدد من رجال القرية من المقرّبين له، حصدوا الزرع بالمناجل الحادّة، وعملتُ معهم بمنجل صغير، وجرحتُ يدي، وبذلت جهدا جيدا جعلني أشعر بالزهو وأن جسدي الصغير النحيف يمكنه أن يحصد شيئا لإدامة الحياة، عُدنا بعد الظهيرة بقليل، أبي وحُزْمة الرجال وأنا، وصلنا بيتنا الريفي اللطيف ببساطته، كانت صينية الغداء جاهزة، صينية دائرية كبيرة مصنوعة من الفافون النظيف، ممتلئة بالرز (التمن العنبر) المطبوخ بالسمن (الدهن الحرّ)، وفوق الرز العنبر قطع كبيرة من اللحم المطبوخ بتوابل لا أتذكر منها الآن سوى رائحتها وطيفا شفيفا من لونها الأصفر، قد لا تصدقون إذا أخبرتكم بأن نكهة ورائحة طعام تلك الصينية لازمني سنوات عمري كلها، رائحة أقرب إلى السحر والحلم الخالد، رائحة غير قابلة للفناء مطلقا، كأنها عطر ملاك سماوي ينتشر حول الأرض في حالة من البقاء الأبدي، عطر جعل قرية أم البط بكل سكّانها وبيوتها وكائناتها وذكرياتها مزروعة في ذاكرتي وقلبي إلى الأبد، أكل الرجال المتعبين طعامهم بشهية قد لا تتكرر، وهم يستحقون ذلك بعد حملة الحصاد التي درَّتْ علينا رقمًا من المال والمؤونة كنّا بأقصى الحاجة لهما.
بعد تلك الحملة (حملة الحصاد) لم يأخذني أبي معه إلى الأرض، وكانت حجّته بأنه يخشى عليَّ من الوقوع في أيدي الاقطاعيين الذين يمتلكون الأرض فيستغلونني كما استغلوه ولوّثوا حياته بالمهانة، كان لا يرغب أن أكون فلّاحا مثله بسبب الظلم الذي تعرّض له، فكان منذ نعومة أظفاري يُبْقيني في البيت، ويوصي بي أمي وأمهُ (جدّتي)، ويقول لهما، لا أريد أن يتعرض (علي) لأي أذى، انتبهوا له من النار وجمر الموقِد، واحذروا أن يسقط في ماء الترعة (الدوّارة)، لكنني مع ذلك سقطتُ في الترعة التي تمر من أمام بيتنا الطيني وكدتُ أغرق فيها إلى الأبد...
حينما كبرتُ أخبرتني جدّتي بقصة غرقي المبكر في الترعة، فقالت لي: ذات يوم ذهب أبوك إلى الأرض ليفلحها كالعادة، وأوصانا (أنا جدّتكَ وأمكَ) بأن نحرص عليك أكثر من أنفسنا، ونبّهنا إلى خطر سقوطك في الترعة أو (الدوّارة الصغيرة) كما يسميها الريفيّون في العراق، لكننا في زحمة العمل تركناك تلهو مع أختك الكبرى زهرة، وأوصيناها أن ترعاك وتمنعك من اللعب عند جرف الترعة، لكنك كنت مغرما بالعبث بالطين، وكنت تعشق الخربشة في التراب اليابس والرطب.
تواصل جدتي حكايتها لي: (لم نستطع منعكَ من اللعب في تراب الجرف، حاولنا أن نلهيك بقطعة حلوى (جكليته) كي تنسى الطين، لكنك قبضتَ على قطعة الحلوى بيدك اليسرى بقوة ورحت تحبو ثم تركض نحو الباب غير المًحْكَم لسياج الكوخ المبني من سعف النخيل، رافقتكَ أختك زهرة، خرجتُ معكما أنا عند الجرف، كان الماء سريعا، فقلتُ لأختك زهرة: حاذري أن يسقط منك في الماء، تركْتكَ تلعب بطين الجرف، بدأتَ ترسم فيه أشكالا غير مفهومة، ربما أنت وحدك كنت تفهمها، لأنك كنت تستغرق فيها، وتستمتع وتصفن طويلا عليها، كأنك تتأمل شيئا ما فيها، كما يتأمّل الرسامون لوحاتهم والنحاتون منحوتاتهم، وكنت تقضي ساعات متواصلة مع الطين والتراب الناعم دون أن تملّ منه، غريبة كانت علاقتك مع التراب، وهذه المحبة للطين والاستغراق فيه جعلنا نؤمِّن بأنك لن تسقط في النهر، لكن حدثَ ما كنّا نخشاه أنا وأمك، فحين كنت تلهو عند طين الجرف في الضحى، دخلتْ علينا أختك زهرة بصوت مخنوق ودموع متدفقة، أخذت تصرخ بنبرة طفولية ملتاعة (وقعَ علي في الدوّارة، أكلهُ الماء)، خرجنا أنا وأمك على غير هدى، سبقتني أمك إلى جرف الترعة، كان الماء مصابا بالجنون، هكذا رأيته من سرعته، قذفتْ أمكَ بجسدها فوقك لكنها سقطت خلفك لأن الماء كان سريعا، فدفعت بجسدك إلى الأمام أكثر، أما أنا فصرتُ أكثر ذكاءً، ركضتُ مسافة على الجرف قبل أن أقذف بجسدي في الماء، وحين سبقتُ جسدك الطائر في الماء بأمتار، رميتُ جسدي في النهر واستقبلتُ جسدَكَ بذراعيّ، ضممتكَ إلى صدري، خرجتُ بكَ من الترعة، ثم أمسكتُ بقدميك ورفعتهما إلى الأعلى وصار رأسك إلى الأسفل، خضضتُ جسدك بقوة، فاندلقت المياه من فمك، كنتُ رأيت بعض الديدان تلبط في الماء الذي قذفه فمك، بعد لحظات سعلتَ بشدة، كانت أمك تنوح، وأختك زهرة تبكي بمرارة وهلع، وحين فتحتَ عينيكَ، انتبهتْ أمكَ إلى قبضة يدك اليسرى المغلقة، كنتَ لا تزال قابضا على قطعة الحلوى (الجكليته) رغم رحلة الموت التي قطعتها، في تلك اللحظة قلتُ لأمّكَ: هذا الولد سوف لا يتخلّى عن أشيائه الجميلة إلى الأبد....

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة