بعد 32 سنة من الاختبارات، يبدو أن الفدرالية التي جرى منحها لمحافظات شمال العراق، كانت مجرد حيلة سياسية سمحت لبعض العوائل المتنفذة بالتمدد والتوسع، حتى صارت هذه العوائل عبارة عن ممالك تتوارث الثروة والنفوذ على حساب بقية السكان الأكراد، من بينهم بعض الأقليات بالطبع.
ويتضح أن تجربة الحكم الذاتي في الإقليم ستقود إلى المزيد من النزاعات، في ظل الصراع المتنامي مع ظهور جيل جديد من الورثة السياسيين، يسعون جميعاً إلى استمرار نفوذ الآباء بصيغة تؤمّن لهم سلطة مستدامة، خصوصاً مع تزايد المشاريع الاستثمارية المتعلقة باستخراج النفط والغاز.
وكلما زادت الموارد في الإقليم، تنامت الصراعات، وهو ما يتأكد من خلال ما حصل في العقود الثلاثة الماضية، من بينها حرب أهلية طاحنة عام 1996، على خلفية عدم الاتفاق على تقاسم واردات المعابر الحدودية بين الحزبين الكرديين (اليكتي + البارتي)، وتحديداً معبر إبراهيم الخليل الذي يربط العراق بتركيا.
واستحوذ في حينها (الحزب الديمقراطي الكردستاني / البارتي) بزعامة البرزانيين، على واردات معبر إبراهيم الخليل، دون منح حصة (للاتحاد الوطني الكردستاني / اليكتي) بزعامة الطالبانيين، ما تسبب بنزاع مسلح في عاصمة الإقليم (أربيل)، تطور لاحقاً ليتحول إلى حرب أهلية جرى تدوينها في التاريخ بعنوان (حرب الففتي ففتي)، والتي تعني حرب تقاسم الموارد بالمناصفة بين الحزبين بصيغة 50% لكل طرف.
واستعان (البارتي) في حينها بجيش صدام لحسم معركته مع الشقيق الكردي (اليكتي)، دون أي اعتبار أو خشية وقلق على مصير (الحكم الذاتي)، الذي كانت تسعى له القوى الكردية بحجة الخصوصية الثقافية والقومية للأكراد، ولكن اتضح بعد تحقيق ذلك أن الغرض منه كان الحصول على السلطة والثروة، وأن الفدرالية كانت مجرد عنوان يتيح لهذه القوى التحكم بالموارد بشكل مطلق.
ولا يخفى على أحد أن المحافظات الثلاث تعيش أزمات اقتصادية خانقة منذ التسعينيات وحتى اللحظة، على رأسها أزمة رواتب الموظفين المستمرة، على الرغم من جميع المبادرات التي طرحتها بغداد في طريق إيجاد حلول لهذه الأزمة، والتي من بينها ربط رواتب الكادر الوظيفي بالمركز.
ويمرر سكان الإقليم هذه الأيام رغبات متعددة تتيح لهم الارتباط بالمركز، فضلاً عن الرواتب التي يتم سداد سبعة منها خلال السنة الواحدة في أفضل تقدير، حيث تشتمل تطلعاتهم الحصول على مشتقات الوقود بالأسعار المعتمدة في بقية محافظات العراق، بعد أن وصل سعر لتر البانزين الواحد من النوع العادي إلى 1200 دينار.
ومنذ عدة أشهر يتنازع الحزبان على حصصهم المقبلة من واردات الإقليم، وعلى تخصيصات الموازنة الاتحادية الثلاثية المزمع تطبيق بنودها، وسط تعطيل شامل لبرلمان الأقاليم الذي أدى إلى تحول الحكومة المحلية إلى تصريف أمور يومية، ولا أمل في الاتفاق قريباً على الذهاب نحو انتخابات محلية تتيح إعادة بث الروح مجدداً في الحكم الذاتي.
وأمام هذا المشهد الذي تدور أحداثه حول المصالح الحزبية الضيقة، التي تسببت بتهديم جميع مباني الديمقراطية، يشمل ذلك حرية التعبير، بات الإقليم مدججاً بالأسلحة، وتحت ضغط مختلف القواعد العسكرية الأجنبية، من بينها معسكرات لفصائل مسلحة أجنبية تستهدف حكومات وأنظمة دول الجوار، وهو ما جعل الأقاليم ملعباً للاجندات الخارجية وعلى حافة بركان قد ينفجر في أي لحظة.
وبالتالي .. وبعد مرور 32 سنة على الحكم الذاتي في إقليم كردستان، لا يمكن اعتبار التجربة غير كونها تجربة فاشلة بامتياز، وذلك وفق مؤشرات ومعطيات حالة الأمن والإدارة والسياسة والاقتصاد، ويضاف لهم القضاء والقانون الذي بات هو الآخر تلاحقه انتقادات تتعلق بالخضوع لإرادة الأحزاب المتنفذة، الأمر الذي يجعل من الحكم الذاتي مجرد حلم لا فائدة له على أرض الواقع.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *