02 Mar
02Mar

الموعد السنوي للذكريات الجميلة والحزينة، يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط، حيث ذكرى الثورات العربية التي حدثت قبل 12 عاما، ففي 14 يناير 2011 تنحّى بن علي عن السلطة في تونس، وفي 11 فبراير 2011، تنحّى حسني مبارك عن الحكم، وفي اليوم نفسه، اندلعت الثورة ضد علي عبد الله صالح في اليمن، ثم خرجت الجماهير في دمشق والمنامة وعدة عواصم عربية للمطالبة بالحقوق والحريات والكرامة والعدالة.
ما طالب به المواطن العربي منذ 12 عاما، وبذل في سبيله العديد من التضحيات والدماء، يعدّ الحد الأدنى للحياة المعتادة للمواطن في دول أخرى، فما نعتبره نحن أحلاما وتطلعاتٍ هي حقوق في دول أخرى، سبقتنا في المطالبة بحقوقها منذ عشرات السنين، سكن مناسب وتعليم مناسب وشوارع نظيفة ورعاية صحّية ملائمة، ومعاملة آدمية من السلطة لكل المواطنين، ولكن ذلك يتطلّب إمكانية لمحاسبة الحاكم وإمكانية تغييره أو تداول السلطة، وهنا كانت الجريمة في وجهة نظر من اعتبروا أنفسهم حكاما.
في مصر هذه الأيام ومع سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية، أصبح بعضهم يكرّر عبارة "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، ما يعني حنينا لعهد مبارك وما قبل 24 يناير/ كانون الثاني 2011، أو اعتبار أن الحال في عهد ذلك الديكتاتور الذي نهب الثروات وأفسد البلاد كان أفضل حالا من الآن، كمن يستجير من الرمضاء بالنار. يوجّه بعضهم اللوم لمن أطلقوا الشرارة منذ 12 عاما، يتساءلون غاضبين: لماذا لم تصبروا على مبارك ليُكمل مدّته، هل أصبح الحال أفضل؟ لم يُتَح للثورة أن تحكم، وجرى التلاعب بها وخداعها منذ اليوم الأول، فلماذا لوم الضحية على محاولة الإصلاح؟
لا يختلف الأمر كثيرا بشأن تونس ، فبعد أن كنّا نغبط التوانسة على نجاحهم في صياغة دستور توافقي وانتخاب رئيس جمهورية وبرلمان، ولم يكن الأمر سهلا، ولكن اعتقدنا أن الحال التونسي أفضل قليلا، وكنا نقول دوما في مصر إن الإجابة هي تونس، ولكن يبدو أن دوام الحال من المحال، فبعد ما حدث في مصر في يوليو/ تموز 2013 حتى تكرّرت أحداثٌ مشابهة في تونس، حتى وصل الأمر إلى أن يتولّى الحكم ديكتاتور يقوم بانقلاب ناعم، لكي يحتفظ بكل السلطات في يديه، وكأن ثورةً لم تقم.
أما سورية واليمن فأصبحتا نموذجين يذكرهما أنصار السلطوية والاستبداد لتخويف الجماهير من تكرار الخروج للمطالبة بالحقوق والتغيير نحو الديمقراطية، وكأن الخطأ كان في مطالبة الشعوب بحقوقها، وليس قمع الحكام ووحشيتهم تجاه من طالب بحقّه. تستخدم السلطة وأبواقها في مصر مبرّرات كثيرة بغرض التنصّل من مسئوليتها عما آلت إليه الأوضاع، فتارة يقولون إن الزيادة السكانية هي السبب، وتارة يلقون باللوم على الحرب الروسية ونتائجها، ولكن النسبة الأكبر من المبرّرات تتمحور دوما حول الحراك الجماهيري الذي حدث في 2011، إنها رسالة تخويفٍ للداخل بأن أي اعتراض على السياسات سيؤدّي إلى الخراب، ورسالة إلى أطراف إقليمية ودولية مفادها بأن تأخير المعونات قد يؤدّي إلى عدم استقرار سوف يؤثّر على مصالحكم.
ربما تظهر في المستقبل البعيد أجيال جديدة، لديها أساليب مفاجئة وعجيبة، كما كان شباب 2008 و2011
كانت لحظات الثورة المصرية والـ18 يوما فارقة بكل المقاييس، فرغم الإخفاقات، ورغم التنكيل الذي حدث بعد ذلك لمعظم من شاركوا فيها، فهي اللحظات التي اكتشف المصريون للمرّة الأولى أنهم هم الملّاك الحقيقيون لبلدهم. أتذكّر مئات وآلاف المبادرات العظيمة التي كان الشباب على استعداد للقيام بها، أتذكّر مشاهد تنظيف الشباب الميادين بعد مغادرة المعتصمين، قيل وقتها إنها الثورة الوحيدة التي نظّف فيها الثوار مكان اعتصامهم. وقتها كان بالإمكان أن يتقدّم أي شاب بمبادرة أو فكرة مبتكرة، ويبدأ في تنفيذها بمنتهى السهولة، بدون الاضطرار للانضمام للحزب الحاكم أو دفع رشوة لشخصٍ ما.
بعد تنحّي مبارك، عاد إلى مصر مئاتٌ من نوابغ الأطباء والمهندسين والعلماء وعشرات من رجال الأعمال، كانت الأحلام والآمال في الإصلاح وإعادة بناء الوطن، أن يكون الوطن للجميع بدون محاباة، وأن يكون هناك تكافؤ للفرص، وألا يكون هناك أسياد وعبيد، وألا يكون هناك فساد أو محسوبية.
وأخيرا، ظهرت كتابات وأفلام وثائقية تسرد عن "يناير"، من منظورٍ مختلف، فهناك طرحٌ يزعم أن ما حدث في 2011 في مصر كان انقلابا عسكريا ناعما، أو هبّة شعبيةً جرى استغلالها لتمرير انقلابٍ ناعم، فمبارك لم يتنحّ عن الحكم طواعية، بل جرى إجباره على ذلك من المجلس العسكري، لم ينحز المجلس للثوار وللثورة كما قيل، ولا تعنيهم مطالب الحرية والديمقراطية في شيء، بل كان منع أبناء مبارك من تولّي السلطة هدفا مشتركا لدى الجميع وقتها، هذا الرأي يدعمه مؤيدون للثورة، وأيضا مؤيدون لمبارك الأب.
في ذكرى الثورة، تتجدّد الخلافات حول من السبب في تدهور الأوضاع إلى ما نحن فيه؟ هل الشباب الساذج أم الإخوان المسلمون الانتهازيون؟ هل كانت بداية الانشقاق والانهيار في مارس/ آذار 2011 أم في يوليو/ تموز 2013؟ أحيانا، يتساءل بعضهم لماذا تغير الخطاب لبعض رموز ثورة يناير؟ ولماذا رفضتم بعض دعوات التظاهر أخيرا؟ هل هو الخوف أم إيثار السلامة أم تجنّب التنكيل؟. .. اعتقادي أنه ليس الخوف أو إيثار السلامة فقط، فهناك أيضا الخوف من المجهول لدى قطاعاتٍ ضخمة من الجماهير، والخوف من تكرار الأخطاء السابقة، وتكرار التخبّط والفوضى وعدم الاستقرار، فالجماهير قد تتحمّل التضحيات أو الفوضى، إن كان هناك أمل يلوح في الأفق، ولكن لماذا تتحرّك وتقبل التضحيات إن كانت الخطوات التي تلي ذلك ضبابية؟ فحتى الآن، لم يتم التوصل إلى النموذج المطلوب، فحتى لو تحقّق الحلم القديم وهبّ الناس مرة أخرى يبقى السؤال، وماذا بعد؟
تستخدم السلطة وأبواقها في مصر مبرّرات كثيرة بغرض التنصّل من مسئوليتها عما آلت إليه الأوضاع
كيف ستتعامل فصائل الإسلام السياسي، وهي يملؤها كل ذلك الكم من الكراهية والرغبة في الانتقام والتنكيل بالخصوم؟ وما هو موقف المؤسّسات التي تحكُم، والتي أصبحت أكثر قوة وسيطرة وتحكّما في كل المجالات مما قبل 2011، وكيف سيكون ردّ فعل المجموعات التي تندرج تحت تصنيف أحزاب مدنية بكل تنوّعاتها وتصنيفاتها وتناحرها وضعفها وقلة حيلتها؟
لا تزال هناك قضايا حسّاسة ومحورية عالقة، ولا يزال الخلاف جذريا بين المجموعات والفصائل المعارضة للسلطة، ولا يزال الجميع يلقي اللوم على الجميع... صراحةً لست من أنصار فكرة "انزل وبعدين نشوف"، وأعتقد أنه لو صادف أو "وفق الله" لتكرار الانتفاضة أو حدثت معجزة ما، فلن يختلف التخبّط كثيرا عما حدث في 2011 و2012، فالله منح مصر والعرب فرصة كبيرة في 2011 أضاعوها بصراعاتهم وتخبّطهم.
بشكل عام، لا يزال الحديث عن الثورة وذكرياتها من الأفعال المؤلمة، هل خسر الجميع بعد تلك المحاولات؟ خسر الثوار وجرى التنكيل بهم، وتوزّعوا على السجون أو المنفى، وأيضا خسر أعمدة نظام مبارك نفوذهم، وتم استبدالهم بطبقة جديدة، ربما نجا من تلوّن ودخل في ركاب الحكام الجدد (أو هكذا ظن)، وربما لم تنجح محاولة الإصلاح في 2011، ولكن قيم ثورة يناير تظلّ باقية وتظل الذكرى حاضرة، وسيظل أثرها مستمرّا سنوات طويلة، مهما حاولوا شيطنتها. لقد مسّنا الحلم ولا يزال يعيش في داخلنا، ذلك الحلم الذي يعتبره الطغاة كابوسا، يخشونه، ويعملون بكل جهد لتخويف الشعوب منه.
ربما تكون الأجيال القادمة أكثر حظا من أجيالنا التي شاخت مبكّرا بعد السجن والحصار والنفي. وربما تظهر في المستقبل البعيد أجيال جديدة، لديها أساليب مفاجئة وعجيبة، كما كان شباب 2008 و2011، أو ربما يكون الحل هذه المرّة مختلفا أو توافقيا أو تفاوضيا، ولا أتوقع تكرار وسائل 2011 وأساليبها وما قبلها، فالكتلة الحرجة أو الحاسمة تهاب المجهول أو الفوضى، وهذا حقّها، ولن تتحرّك مرّة أخرى لدعوات معلومين أو مجهولين إلا عندما ترى بارقة أمل أو مسار واضح المعالم، يجيب عن سؤال .. وماذا بعد؟

* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة