تقابلت نظراتهما لثوان، جمال معلم الابتدائية الذي يتردد على السوق المزدحم كل بضعة أسابيع، يعرفه جيدا لكن الشاب البدين الذي كان يجلس إلى بسطة من لوح خشبي مثبت بارتفاع نصف متر على بلوكات اسمنتية لم يكن متأكدا من ملامح الزبون، وإن بدت غير غريبة عنه.
“دكتور غزوان” وهذا ما يُلقب به، واحد من باعة الأدوية على بسطيات منطقة الباب الشرقي في قلب العاصمة بغداد والتي تعرض بضائع مختلفة قديمة وجديدة، لكنه يتميز عن غيره بكونه الأكثر ترتيبا وأناقة حيث يضع أدويته التي أغلبها منشطات جنسية في علب زاهية الالوان تحمل ماركات عالمية معروفة.
يتحدث “الطبيب المزعوم” بلباقة مع زبائنه ويطرح أمامهم الكثير من المعلومات المتضمنة مصطلحات طبية يرددها بإنكليزية تبدو سليمة، ويبدو مقنعاً لزبائنه مع أن رفاقه يعرفون جيداً بأن الشهادة الوحيدة التي يمتلكها هي الإبتدائية، وان معظم ما يقوله ويحفظه عن ظهر قلب “حصل عليه نقلاً عن يوتيوب!”.
ينهمك “غزوان” طوال النهار في تدقيق الحالات التي تأتيه ويبذل مجهودا في اعطاء الدواء المناسب، مع ان الكثير مما يبيعه من الأدوية، هي منتهية الصلاحية أو على وشك الإنتهاء، وقد عرفت طريقها إليه وغيره من باعة الأدوية والعلاجات في السوق، عبر سلسلة من جامعيها الذين يحصلون عليها من المستشفيات والمراكز الصحية والصيدليات والمذاخر.
جمال، الأربعيني الذي بدا الشيب يغزو شعره، اقترب أكثر من “طبيبه”، ودس يده في جيبه ليخرج (بخاخ التمساح) الذي كان قد اشتراه قبل اسبوع على أنه يؤخر القذف. “تسبب لي بتقرحات ومشكلات عدة”، قالها وهو يمده إليه بيد راجفة. لكن البائع غزوان أصر على جودة المنتج، ورجح وجود سوء استخدام، مؤكدا ان الأدوية التي يبيعها هي من مناشيء عالمية معروفة.
بعد مفاوضات قصيرة، أقنع “طبيب الرصيف” الشاطر في التسويق، معلم الابتدائية الباحث عن حل سريع ورخيص لمشكلته، بكلامه، بل وباعه مرهما للتقرحات وحبوبا قال بأنها ستفيد حتماً في تأخير القذف.
يقول جمال:”ليست المرة الأولى التي اتعامل معه، الدكتور غزوان خبير في المستلزمات الجنسية، كما انه المصدر الأكثر رخصا لبعض الأدوية وللسرنجات التي تتوفر لديه احجام وانواع عدة، لا أعرف من أين يأتي بها، لكنها تبدو جديدة”.
تطرح مستشفيات بغداد ومراكزها الصحية وصيدلياتها نحو 4200 طناً من المخلفات الطبية في السنة الواحدة، يعاد بيع نصفها في الأسواق بعد معالجتها بطرق بسيطة واعادة تغليفها لتبدو جديدة، وفقاً لمتعاملين بها في سوقها الرائجة بالعاصمة.
لكن مدير محطة بغداد لإدارة المخلفات الطبية شهاب ابراهيم الصجري، يؤكد معالجة المخلفات الطبية التي تطرحها المستشفيات بطرق حديثة، مشيرا الى وجود 40 سيارة تنقلها من جانبي الكرخ والرصافة الى مواقع المعالجة، إلا أن ما يقوله لايبدو دقيقاً، فعمليات المعالجة يظهر فيها نقاط خلل يتم استغلالها من قبل تجار المخلفات.
المشكلة الأعقد في قضية المخلفات الطبية، تكمن في عدم التزام المستشفيات الحكومية وكذلك الأهلية بشكل كامل بالمخططات التي تعتمدها وزارة الصحة للتخلص من المخلفات، وعلى الرغم من أن الوزارة طرحت معالجة المخلفات للاستثمار، وأن هناك شركات بيئية تقوم بمعالجتها فعليا في منطقة ابو غريب غربي العاصمة، إلا أن بعض هذه المخلفات تعود بطريقة ما الى السوق ليبيعها الدكتور غزوان وجماعته على الأرصفة.أدوية منتهية الصلاحية او مزورة
يقول ابراهيم عبود، وهو من دائرة العيادات الشعبية في بغداد، أن المخلفات الطبية تكون في العادة خطرة على الصحة كونها ملوثة، وأن هناك من يعمل على جمعها وبالتحديد اللدائن منها لاعادة تدويرها واستخدامها في صناعة الأواني البلاستيكية.
ويتابع:”لايمكن السيطرة تماما على تسريب المخلفات إلى السوق فهنالك مافيات تنسق مع عيادات الأطباء لشراء المخلفات واعادة الحياة لها بطرق بدائية وهذه لا يتم تعقيمها ومعالجتها بشكل سليم”.
لكن الطبيب فاضل تحسين، من بغداد، ينفي مسؤولية الأطباء عن ما يحدث، أو وجود دور لهم في تسرب المخلفات الطبية ونفاياتها من خلال عياداتهم، ويوضح أن “أغلب المستشفيات والعيادات الشعبية تفتقر إلى الرقابة ولا تتبع البروتوكولات وأن من يقوم بتسريب المخلفات هم عمال التنظيف والأجراء وهؤلاء يعرفون ماهو الثمين منها لذلك يتسابقون على رفع المخلفات بسرعة”.
القضية الأخرى التي يطرحها الدكتور فاضل تحسين، هي الأدوية منتهية الصلاحية التي لا تحرص بعض الصيدليات على التخلص منها وحتى إن فعلت فانها ستعود مجدداً بتحويرات بسيطة لتباع في صيدليات المناطق الشعبية أو على الأرصفة. هذه الأدوية يتم اعادة تغليفها وتزوير تواريخ الصلاحية أو محوها بطريقة تشويهية، وفقاً لما ذكر.
تجارة الأدوية منتهية الصلاحية أو المزورة لا تتم فقط عن طريق أصحاب بسطيات الأدوية، من الذين يطلق عليهم شعبياً تسمية (أطباء الأرصفة) وإنما تقوم بها صيدليات استثمارية كبرى بمساحات أرضية قد تصل إلى 500 متر مربع، وهذه الصيدليات الكبيرة أخذت تنتشر في الشوارع التجارية وهي تروج لإمتلاكها أدوية أصلية و “مضمونة”.
العامة يطلقون على هذه الصيدليات تسمية “مول”، ولكن “حسين. م” وهو موظف رقابي يعمل في وزارة الصحة العراقية، يقول عنها بأنها “أوكار للغش وتجارة الموت”. ويوضح: “هي تدخل عن طريق موانيء البصرة، حيث تصل حاويات مليئة بالأدوية منتهية الصلاحية، ويتم ادخالها على أساس كونها بضاعة أخرى، ثم تصل إلى مذاخر بغداد ليتم تغليفها من جديد وبيعها على انها أصلية إلى صيدليات المول.
ويضيف:”بعض هذه الصيدليات تعترف لزبائنها بأن أدويتها تصل عن طريق التهريب، وبهذه الطريقة يقومون برفع الأسعار عند كل شح يحدث في تلك الأدوية التي في الغالب تستخدمها فئات محددة (للتنحيف أو بناء الأجسام)”.
ويعبر عن استغرابه في أن أغلب هذه الأدوية “تكون ممهورة بلاصق يؤكد فحصها من قبل وزارة الصحة وأن الشركة معتمدة من قبل الدولة العراقية، ولا يمكن التأكد من صحة ذلك”.
وعن مخاطرها يقول حسين: “لا يهتم الكثيرون بما تشكله هذه الأدوية من مخاطر، والسعر المرتفع للدواء هنا يصبح معيار الجودة الذي يقيس به الغالبية من الناس الأمر، وإذا سألت أحدهم عن ذلك، سيقول لك الموت في النهاية هو أمر بيد الله وحده!”.
الناشط سلام محي الدين، يقول بأن “تجارة الدواء لدينا في العراق فوضوية، وهي تشبه تجارة باقي السلع والبضائع بما فيها الغذائية والاستهلاكية”، ويتابع موضحاً:”هنالك أنواعٌ لاحصر لها من البضائع التي تباع في الأسواق، نعتقد أنها مزورة أو مقلدة وتضم مواداً غير صحية، أو منتهية الصلاحية، ومع ذلك يتم تداولها، في ظل الرقابة المحدودة”.
ويتهم سلام، بعض القائمين على عيادات التجميل المنتشرة بنحو كبير في العاصمة، بالوقوف وراء تسريب الكثير من المخلفات الطبية المدورة أو التي تم تأهيلها لإعادة بيعها، ويقول أيضاً:”هنالك مذاخر للأدوية، تتخلص من الأدوية قريبة انتهاء الصلاحية ببيعها لتجار التجزئة والجملة، وبعض هؤلاء يضعون تواريخ جديدة لها ويعودون لبيعها على أنها جديدة، كما ان مذاخر وصيدليات ترمي الأدوية منتهية الصلاحية في مكبات النفايات، فيتم رفعها من قبل باعة الخردة وبيعها”.
صفاء عبد الرزاق (31 سنة) بائع أدوية ومسلتلزمات صحية، يسوق أحيانا لمواد اقترب تاريخ انتهاء صلاحيتها، يقول بأنه اشترى أدوية ومستلزمات (رفض تسميتها بمخلفات طبية) من شارع المغرب، وهو شارع شهير ببغداد تكثر فيه المجمعات الطبية والصيدليات، بمبلغ 15 مليون دينار عراقي (تعادل 11400 دولاراً) على مدى شهر كامل وقام بتسويقها. صفاء يقول بتحفظ “اشتريتها من العمدة” ورفض تقديم أي ايضاح آخر.أضرار بيئية ومخاطر صحية
بحسب الموجز الإحصائي لسنة 2022 الصادر من وزارة التخطيط، هنالك 105 مستشفى حكومي وأهلي في العاصمة بغداد و 463 مركزاً صحياً.
وبناء على تقديرات خبير بيئي وصحي، فضل عدم الإشارة إلى أسمه لسبب يتعلق بوظيفته، فأن هذه المؤسسات الصحية تطرح ما يزيد عن 20 طناً من النفايات والمخلفات الطبية، وقال بأن الكمية ستتضاعف لو أضيف إليها ما تطرحه “المئات من عيادات الأطباء بمختلف تخصصاتها، ومراكز التجميل، ودكاكين الممرضين، والصيدليات والمذاخر”، على حد تعبيره.
وذكر بأن معظم المشافي لاتملك محارق للتخلص من النفايات الطبية الخطرة “الناتجة عن العمليات الجراحية أو التي استخدمت من قبل مصابين بأمراض وبائية”.
ويستدرك:”وحتى التي لديها تلك المحارق، فهي قديمة، وتسبب انبعاثاتها الغازية مخاطر بيئية وصحية، ولاسيما أن أغلب المستشفيات إن لم يكن جميعها، محاطة بتجمعات سكنية”.
وفيما يتعلق بالمخلفات الطبية السائلة يقول:”لاتوجد في المستشفيات وحدات لمعالجتها، لذا هي تتسرب إلى المجاري ومن ثم إلى نهر دجلة عبر المصبات، وهو أمر يشكل خطراً حقيقياً على الصحة العامة”.
مع تعذر التخلص الفوري ومن خلال المحارق، من كل المخلفات والنفايات الطبية الصلبة للمستشفيات والعيادات والصيدليات، فانها تتسرب مع النفايات العادية، لتشكل مصدر خطر على الصحة والبيئة.
والتخلص من تلك المخلفات الخطرة، كما ينبه الخبير البيئي والصحي “لايتم بطريقة دقيقة وآمنة، ففي الكثير من المستشفيات لا تفرز بشكل علمي لفصل الضارة والتخلص منها مباشرة عبر الحرق أو بواسطة أجهزة الثرم، كما أن العمال المكلفين بذلك غير كفوئين ولا تتم مراقبتهم، لهذا فان كميات كبيرة منها تختلط بالنفايات العادية وينتهي بها المطاف إلى مكبات النفايات، وهنالك يلتقطها نباشو النفايات”.
والأمر الأخير هذا، يحذر منه مدير قسم التوعية البيئية في وزارة البيئة، صلاح الدين الزيدي. الذي يؤكد في ذات الوقت بأن التخلص من النفايات الطبية في العديد من المستشفيات الحكومية في بغداد “يتم بشكل آمن بواسطة محارق طبية نظامية”. ويقول بأن العمل يتم حاليا على إنشاء محرقة طبية حديثة وبسعة كبيرة في مستشفى مدينة الطب.
ممرض من منطقة الأعظمية ببغداد، رفض الكشف عن أسمه، يزاول مهنة التمريض في الحي ذاته وبنحو رسمي منذ عقدين من الزمن، يقول ان كثيرين يعرضون عليه أدوية ليبيعها لزبائنه المرضى “يحدث ذلك باستمرار، اشخاص يعرضون عليك أدوية مختلفة بأسعار مناسبة”.
يدرك الممرض بحكم خبرته الطويلة في العمل بالحقل الطبي، أن قسماً من تلك الأدوية منتهي الصلاحية، وقد تم الحصول عليها بطريقة ما من مؤسسات صحية، وربما بعضها سليمة يتم تسريبها بشكل غير قانوني.
ويستدرك:”أياً كان مصدرها، يجب أن لايتم تداولها بالبيع عبر أشخاص غير متخصصين ولايحملون أية صفة طبية”، مبينا أن المواطن العادي بحاجة إلى توعية بعدم شراء الأدوية من هؤلاء أو من البسطيات في الأسواق، وعلى الجهات الرقابية ان تطور آليات عملها وأن تدقق بنحو أكبر وأوسع في هذه الظاهرة الخطرة.لماذا تباع الأدوية على الأرصفة؟
معد التقرير تواصل مع موظفين في دائرة صحة بغداد وصيادلة ومذاخر عديدة، لمعرفة الأسباب الكامنة وراء تسرب الأدوية وبيعها على الأرصفة في بعض مناطق العاصمة، فاجمعوا على أن ذلك يعود “للفساد وغياب الرقابة الصارمة” وذكر بعضهم أن أدوية الأرصفة لايكون مصدرها دائما المؤسسات الصحية او الصيدليات والمذاخر العاملة، بل أيضاً “التهريب” وهنا لا أحد يعرف مكونات الدواء ومدى خطورته.
“ف، س” صيدلاني من جانب الرصافة، طلب الإشارة بحرفي أسمه الأولين فقط، يقول بأن هنالك أنواعاً من الأدوية تباع من قبل مواطنين عاديين على البسطيات، لا تتوافر حتى في المذاخر التي يحصل هو شخصياً على الدواء منها لصيدليته.
ويقول بأن تلك الأدوية وبعضها بـ”ماركات غريبة” تصل عن طريق التهريب وتباع بأسعار زهيدة وهي غير مفحوصة من قبل الجهات الرقابية، ولايستبعد أبداً ضررها الصحي.
ويلفت إلى أن طرق التهريب “متعددة ومتنوعة والمتورطون فيه حلقة كاملة تبدأ من الحدود وتنتهي في الشارع” على حد قوله.
ويوضح:”تمرير الأدوية هذه عبر الحدود دون موافقات رسمية أو فحص أو غير ذلك من متطلبات، يعني هنالك مسؤولون يسهلون ذلك وآخرون يسمحون لها بالوصول إلى الأسواق، وغيرهم يتولون نقلها، وسواهم يغضون النظر عنها وهي تباع بنحو سري أو حتى علني، وهناك تجار عملهم الأساس يرتكز على التعامل بهذه الأنواع من الأدوية”.
كما يشير إلى أن البعض:”يقوم بتزوير الماركات أو العلامات التجارية ودولة المنشأ، ويضعون علامات معروفة لكي يطمئن المشتري عند شرائه لها، كما يزورون التواريخ الموجودة على العلب والعبوات كذلك، مع أنها أدوية مغشوشة او منتهية الصلاحية وتشكل خطرا على الصحة”.
صيدلي آخر من جانب الرصافة، وأيضاً طلب عدم إيراد أسمه، أشار الى نوع آخر من تجارة الأدوية، وصفها بأنها الأكبر خطورة في ظل ضعف الرقابة وعجز أجهزتها، وهي تجارة الدواء من قبل غير المتخصصين عبر الانترنيت، ويقول:”هنالك صفحات بمواقع التواصل الاجتماعي تبيع الأدوية والمستحضرات مجهولة المنشأ أو مصنعة من قبل بائعيها، تباع بدون وصفة طبية أو ترخيص، ودون أن تكون قد خضعت للفحص والموافقة”.
وذكر بأن مسؤولية وزارة الصحة هي أن “تقوم بفحص كل الأدوية التي تدخل العراق، وبأي طريقة من الطرق، اذا لابد من وجود باركود الفحص وكذلك التسعيرة، وينبغي مصادرة أي دواء لايتوافر فيه هذان الأمران، مع وجوب التدقيق من صحة الباركودات باستمرار”.
وتشير مصادر في وزارة الصحة، إلى أن العراق ينفق نحو ثلاثة مليارات دولار سنويا على استيراد الأدوية من مناشئ عالمية مختلفة، وبحجة ارتفاع أسعار البعض منها يلجأ تجار الى طرق التهريب لتأمين أدوية مقلدة او مغشوشة ويبيعونها بأسعار زهيدة”.
وتشدد تلك المصادر، على أن التعامل مع الأدوية المهربة او تلك التي تباع على الأرصفة من مسؤولية الجهات الأمنية، وان الجهات الرقابية تبلغ باستمرار عن وجود هذه الظاهرة وتطالب بمكافحتها.
وفي ظل قلة الانتاج المحلي، تشكل الأدوية المستوردة النسبة الأكبر من مجموع الأدوية في الصيدليات والمستشفيات في العراق، وهو ما يتم عبر المؤسسات الحكومية او القطاع الخاص، وتخضع العملية لفحوص دقيقة لضمان سلامة الأدوية.
ولمواجهة الأدوية المهربة والمغشوشة، أطلقت وزارة الصحة المشروع الوطني للدواء، الذي يتضمن فحص حتى الأدوية الداخلة عبر التهريب، وفي حال إيجاد أدوية لا تحوي “باركود الفحص والتسعير” تتم مصادرتها.حلول ومعالجات
وكيل وزارة الصحة والبيئة د. جاسم الفلاحي، يقول بأن معظم المؤسسات الطبية الموجودة في البلاد حالياً تفتقر الى الآليات الرشيدة للتعامل مع النفايات الطبية، وان الموجودة بالفعل ليست بذات الكفاءة. ويذكر أمثلة على تلك الآليات التي ينبغي اتباعها كطريقة التقطيع والتعقيم.
وهذا ما ذكره تقرير لديوان الرقابة المالية صدر سنة 2018، تم التأكيد فيه على أن معالجة النفايات الطبية تعاني من نقص في الموارد والبنية التحتية، وأن 84 مستشفى من أصل 147 في بغداد والمحافظات تفتقر إلى وحدات المعالجة المطلوبة.
معد التقرير تواصل مع موظفين في بيئة بغداد، أكدوا له بأن فرقاً تفتيشية تابعة لدائرتهم، تقوم بجولات في المستشفيات والمراكز الصحية للتأكد من فرز النفايات الطبية عن النفايات العادية، وتقوم يتوجيه العاملين فيها الى الطرق السليمة للقيام بذلك ليتجنبوا خلطها، فضلاً عن حمايتهم من انتقال العدوى اليهم عبر التلامس مع تلك المخلفات.
وذكروا بأن حرق النفايات هي من اختصاص إدارات المشافي، مع إشارتهم إلى أن المحارق الموجودة في المستشفيات، قديمة ومتهالكة وبعضها لاتحتوي على المرشحات اللازمة لتقليل ضرر الانبعاثات الغازية الناجمة عن حرق المخلفات والفضلات الطبية.وبناءً على ذلك يقترح الناشط عبد الأمير علي، أن يتم فرض إجراءات التخلص الفوري من النفايات الخطرة عبر التعقيم ومن ثم الفرم بواسطة أجهزة متخصصة، وان تحرق الأقل ضرراً “من أجل منع وصولها الى مكبات النفايات والتقاطها من قبل باعة الخردوات لإعادة تدويرها، أو وصول الأدوية المعلبة منتهية الصلاحية الى السوق”.
ويجد أن من الضروري الزام إدارات المستشفيات بإنشاء وحدات معالجة للتخلص من المخلفات الطبية السائلة، وفرض رقابة صارمة على الأدوية وتشكيل لجان خاصة، بهدف التخلص الآمن منها.
بالعودة الى مشكلة بيع الأدوية وبعض المستلزمات الطبية من على البسطات او في محلات بمولات أو عيادات الممرضين أو عبر الانترنيت، ينتقد الكثير من الأطباء استسهال عمليات البيع تلك، ويحذرون من خطورتها.
يقول طبيب الباطنية غازي فيصل، بأن النظام المعمول به في الدول المتطورة وحتى بعض دول الشرق الأوسط، من أجل الصحة العامة يقضي “بمنع الكثير من أصناف الأدوية كالمضادات الحيوية وغيرها إلا بوصفة من الطبيب، ترسل من قبله إلى الصيدليات، ولايستلمها المريض إلا بعد تقديم رقمه المدني الشخصي أو تقديم ما يثبت شخصيته، وفيما عدا ذلك فأنه يسمح للصيدليات ببيع الباراسيتول والمعقومات وقطرات الأنف وغيرها”.
ويرى بأن هذه الطريقة، تمنع تسرب الأدوية أو بيعها من قبل جهات غير مرخصة “وتمنع التلاعب بالكميات لأن هنالك رقابة مفروضة على الطبيب والصيدلية في ذات الوقت”.
ويذكر بأن بيع الأدوية على الطرقات في بغداد أمر شائع من 2003، معرباً عن اسغرابه الشديد من عدم إيجاد حل للمشكلة حتى الآن، رغم ان الحلول موجودة.تهريب الأدوية
يجمع أصحاب مذاخر وصيادلة وأطباء، على وجود أدوية مهربة تشكل الى جانب الأدوية المنتهية الصلاحية، مصدر لأصحاب بسطيات الأدوية ومروجي بعض المستحضرات الطبية على صفحات مواقع التواصل، ما يزيد من حجم تلك التجارة وبالتالي خطورتها.
لمواجهة تلك المشكلة، يؤكد المحامي عبد الصافي مشتاق، وجوب قيام الجهات الرقابية المختلفة بأدوارها، من فرق التفتيش التابعة لوزارة الصحة ونقابة الصيادلة، الى جانب وزارة التجارة “من خلال رصد مصادر بيع تلك الأدوية، ومن ثم قيام الجهات الأمنية والتنفيذية بدورها في توقيف المخالفين ومصادرة الأدوية”.
بينما يشير القاضي حيدر فالح حسن، الى وجود تشريعات عراقية تتصدى لمثل هذا النوع من الجرائم منها قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 40 لسنة 1970 المعدل، وقانون الصحة العامة رقم 89 لسنة 1981 المعدل الذي اشترط فحص الأدوية المستوردة والمنتجة محلياً بايولوجياً وكيمياوياً وفيزيائياً، وقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 503 لسنة 1987 الذي استحدث الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية والتي ترتبط إدارياً بوزارة الصحة. وقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 39 لسنة 1994 المعدل بالقرار رقم 135 لسنة 1996.
في سوق وسط العاصمة بغداد، كانت سيدة في عقدها الخامس تجلس إلى جوار بسطية مليئة بالأدوية المختلفة بعضها مسكنات وخافضات حرارة، قالت بأنها تشتريها من تجار وهي أدوية مضمونة وجديدة، وبدا عليها معرفة عامة بفوائد كل دواء وحتى أعراضه الجانبية.
سألها معد التقرير، عن أحد الأدوية فأجابت على الفور بأنه “الفلاجيل للإسهال الحاد والإلتهابات”، ثم أشارت إلى مجموعتها بالقول بان لديها “ابر خاصة للإطفال، وكفلكس، وحبوب للصداع، وشروب للسعال…..”.
على مقربة من البسطة الصغيرة، كانت تقف السيدة جميلة القيسي (57سنة) وهي تراقب المشهد وتستمع إلى المحادثة، قالت بانها مغتربة في فلندا بين 2014 و 2021، وأضافت أنها لا تذكر حصولها على مضاد حيوي من طبيب العائلة هناك على الرغم من مراجعاتها العديدة إليه، بسبب نزلات برد أو آلام في مفاصلها.
وتابعت:”غالباً ما كان يقول لي الطبيب، خذي حبة براسيتول، وأكثري من شرب المياه، ومارسي رياضة المشي”، تتذكر ذلك والابتسامة على وجهها، ثم قالت وهي تضع يدها على فمها:”بعد عودتي إلى العراق، أستطيع الحصول على أي دواء أريده بمجرد ذهابي الى الصيدلية، بل وأستطيع تحديد النوعية التي أريدها، وأشتري أحياناً مراهم من على الأرصفة يؤكد بائعوها أنها أصلية ومن مناشئ أوربية وبلا أعراض جانبية”.
توافقها البائعة بحركة من يدها، وتقول لها بحماس:”أنا أضمن لك بأن جميع أدويتي أصلية ولاتسبب أعراضاً جانبية!”.
أنجز التقرير باشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية بدعم منCFI .