29 May
29May

لا يكاد يخلو زقاق في المناطق الشعبية في العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى، من وجود “خيّاطة”، تعمل من داخل منزلها، تلجأ إليها نساء الجيران لتفصيل ألبسة لهن أو لأطفالهن، وهو ما يوفر لها دخلا جيدا ومصدر عيش شبه مستمر.
خالدة عباس، هي إحدى النساء التي افتتحت ورشة للخياطة داخل سوق شعبي في إحدى مناطق العاصمة بغداد، إذ يبدأ عملها من الصباح الباكر وينتهي عند الغروب. وتقول ، إنها لا تتوقف عن العمل طوال ساعات النهار، بسبب كثرة أعداد النساء اللاتي يأتين إلى محلها بصورة مستمرة، لغرض إصلاح ثيابهن، أو لخياطة ملابس منزلية جديدة.
وتؤكد عباس، أن موقع عملها داخل السوق، جذب لها الكثير من الزبائن، وهو ما دفعها لتشغيل عاملتين لمساعدتها، والإسراع في انجاز العمل.
وتعد مهنة الخياطة من أبرز المهن التي صارعت الاندثار وتغلبت عليه بخلاف العديد من المهن التي اندثرت أو كادت، وتتميز هذه المهنة بمواكبتها لحداثة الموديلات المستوردة، وهي دائما في سباق مستمر لملاحقة الصرعات الحديثة في الازياء.
وعلى الرغم من أن السوق العراقية تغرق بشتى الأنواع من الألبسة المستوردة وبموديلات مختلفة، ولكن على ما يبدو فان كثيرات يفضلن الذهاب إلى محال الخياطة بعد أن يخترن نوع القماش سعيا وراء ملابس جديدة على وفق أذواقهن.
هبة جمعة (23 عاما)، تؤكد من جهتها، ، أنها تذهب كل شهر أو شهرين إلى الخياطة القريبة من منزلها لخياطة ثياب جديدة.
وتضيف الفتاة البغدادية: “أفضل الملابس البيتية ذات الفصال الخاص، لأن الثياب المستوردة متشابهة من حيث الطراز والقصات، فيما تكون الثياب ذات الفصال الخاص على وفق ما أريد”، مبينة أن “نوع القماش الذي اختاره بنفسي، يكون في الغالب ذا نوعية جيدا مقارنة بالقماش المستورد والذي يصنع اغلبه من مادة النايلون”.

وعلى الرغم من أهمية الخياطة في إنعاش الوضع المادي للأفراد، يمكن أن تحقق إيرادات مالية للخزينة العامة، لكن هذه الصناعة مازالت معطلة بعد إغلاق العديد من مصانع الخياطة منذ عام 2003 وحتى الآن.
وكان عضو المجلس الاقتصادي العراقي غدير العطار أكد في تصريحات سابقة، ضرورة وضع خطط كفيلة بإنعاش الصناعة العراقية عبر تأهيل وتطوير الخطوط الإنتاجية في شركة الصناعات القطنية والنسيجية، وتشغيل معامل الخياطة العسكرية والمدنية لأن ذلك يعد مهما للاقتصاد الوطني، مشيراً إلى أن “مشروع إعادة تشغيل معامل الخياطة الحكومية والأهلية، سيغطي حاجة السوق المحلية من المنتج المحلي، فضلًا عن توفير سيولة نقدية وتشغيل أكبر عدد من العاملين من الجنسين”.
وبغياب المصانع والمعامل الكبيرة التي يمكنها استقبال أعداد كبيرة من العاملين في مهنة الخياطة، تبقى تجارب العمل الشخصية مفتوحة لمن يرغب بهذه المهنة.
إحدى تلك التجارب الشخصية، تجسدها فرح كامل (35 عاما)، التي أحبت مهنة الخياطة كثيرا وأتقنها، إذ تذكر أنها علقت لافتة (خيّاطة)، على باب منزلها بمنطقة بغداد الجديدة، مشيرة إلى استقبالها عدد من النساء يوميا اللواتي يقصدنها لفصال الثياب، وخاصة الثياب المنزلية.
وتوضح كامل، خلال حديث لـه، “انتظمت قبل عامين مع أخريات في دورة لتعليم الخياطة في مركز الوليد للتدريب والتطوير المهني التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتمكنت بعد ذلك من اقتناء ماكنة خياطة وبدأت العمل من البيت”.
وانتقدت كامل “حالة السوق العراقية التي تغرق بالملابس المستوردة”، مؤكدة أن “العراق يتمتع بتوفر أجود أنواع الأقمشة القطنية الخالصة وأقمشة الحرير وسوى ذلك من الأقمشة الفاخرة، إضافة إلى وجود كوادر لها تجارب قيّمة في فن الخياطة”.
وتشير إلى أنه “لو أتيحت فرصة حقيقية لهذه الكوادر للعمل في مصانع حكومية أو أهلية، لكان بالإمكان تقديم نماذج من الألبسة الممتازة تغطي جزءا كبيرا حاجة السوق المحلية وتلبي مختلف الأذواق”.

ويعاني القطاع الصناعي بشكل عام من ركود وإهمال، إذ أن ثلثي المصانع مغلقة، وبحسب إحصائيات وزارة الصناعة والمعادن، يبلغ العدد الكلي للمصانع التابعة لشركات القطاع العام نحو 227 مصنعا، لا يعمل منها سوى 140 مصنعا فقط، ووفقا لبيانات الوزارة نفسها، فإن نحو 18 ألفا و167 مشروعا صناعيا متوقفة عن العمل لأسباب مختلفة.
ويبلغ إجمالي المنشآت الصغيرة والكبيرة والمتوسطة للقطاعين العام والخاص حتى عام 2021، أكثر من 27 ألفا و600 منشأة، الا ان المصانع المنتجة لا تتجاوز الخمسة آلاف مصنع فقط وفق بيانات وزارة الصناعة لغاية شهر كانون الثاني من عام 2024.
وحسب الإحصائيات الرسمية أيضا، كان القطاع الصناعي يشكل نحو 23% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للعراق قبل عام 2003.
كما يعود سبب تعطيل الصناعات المحلية، وعدم تفعيل المصانع ومعامل الخياطة إلى غياب الرؤية الواضحة وعدم تنسيق السياسات الاقتصادية، ويبدو أن الإفراط في استيراد الملابس كان وراء إقفال العديد من معامل الخياطة الأهلية، فالعمل يبدو صعبا في ظل غزو المستورد للأسواق المحلية وظروف الانقطاع المتواصل للكهرباء.
وفي هذا الشأن، يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور علاء دعدوش، خلال حديث لـه ، أن “تفعيل القطاع الصناعي، يكمن في ضرورة أن تتسق السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية والتجارية) مع بعضها لتحقيق هدف أساسي، وهو التوجه نحو وضع أساس لقاعدة إنتاج محلي، خاصة في مجال السلع الضرورية”.
ويضيف دعدوش أن “إعادة تشغيل معامل الخياطة ستوفر أموالا لخزينة الدولة وتحافظ على العملة الصعبة داخل البلاد”، منوها بأن “منشأة النجف للابسة وحدها، كانت تغطي في فترة التسعينيات أكثر من 21 بالمئة من حاجة السوق المحلية من الألبسة”.
ولم يحل إغلاق منشآت الخياطة الحكومية والخاصة، دون إقبال الكثيرين وخاصة النساء على تعلم مهنة الخياطة، بوصفها مهنة متجددة وعصية على الاندثار، ولا غنى عنها في المنزل، إذ تنخرط العديد من النسوة والفتيات في الورش والدورات التي تقيمها بعض منظمات المجتمع المدني المعنية.
وبهذا الصدد، تؤكد المدربة في دورات الخياطة صفاء عبد العليم، خلال حديث لـه أنها تستقبل نحو 30 امرأة في كل دورة خياطة، وأن هناك “تزايدا مستمرا في الأعداد”.
وتشير إلى أن “من بين النساء من تتعلم الخياطة لأغراض منزلية وشخصية، ومنها من تتخذها وسيلة للعيش”.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة