في زيارة لم يُحدّد لها وقت للوصول، هبط وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بسترة مضادة للرصاص، في بغداد، ليلة أمس الأول الأحد، وتناقلت وسائل الإعلام بشكل واسع صور وصوله الحذر، الذي رأى مراقبون أنه يحمل رسالة ذات بعد رمزي وتهديدي موجّها للفصائل المسلحة التي تستهدف المنشآت والقواعد الأمريكية في العراق.
وتكشف أوساط حكومية واسعة الاطلاع، أن اجتماع بلينكن، برئيس الحكومة محمد شياع السوداني، تركّز حول منح واشنطن لبغداد "فرصة أخيرة"، من أجل تحييد الفصائل، ومنعها من النشاط ضد المصالح الأمريكية قبل أن يأتي الرد العسكري.
ويكشف مصدر حكومي واسع الاطلاع، خلال حديث لـه أن "وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أبلغ السوداني بأن واشنطن سيكون لها رد عسكري على هجمات الفصائل المسلحة ضد أهدافها ومصالحها، خصوصاً بعد إخفاق بغداد بمنع تلك الهجمات رغم التحذيرات الأمريكية خلال الأيام الماضية".
ويبين المصدر، الذي رفض الكشف عن اسمه، أن "السوداني وعد بلينكن، بأن الحكومة العراقية ستعمل على منع تلك الهجمات، وسيعمل على ذلك مع حلفائه في الإطار التنسيقي وكذلك مع إيران، ولذا فإن زيارته إلى طهران جاءت من أجل مطالبتها بلعب دور في تهدئة الفصائل، ومنع أي تصعيد عسكري لها ضد القوات الأمريكية، لما لذلك من خطورة قد تدفع بتحويل العراق إلى ساحة اقتتال بين الفصائل والأمريكان".
وقبل يوم من وصول بلينكن للعاصمة بغداد، أصدرت كتائب حزب الله، تحذيرا من هذه الزيارة، واعتبر المسؤول الأمني فيها أبو علي العسكري، أن الزيارة "غير مرحب بها"، وأضاف: "سنقابل ذلك بتصعيد غير مسبوق"، لكن هذا لم يحدث.
غير أن القوات الأمنية باشرت ليلة الأحد بقطع جسر الجمهورية وتشديد إجراءاتها بعد وصول المئات من أتباع التيار الصدري إلى ساحة التحرير إثر توجيهات من زعيم التيار مقتدى الصدر بالتظاهر السلمي رفضاً لزيارة وزير الخارجية الأميركي.
وسارع السوداني، للتلويح بورقته "الأخيرة" في طهران "حليفة" الفصائل، من أجل تحييدها في الصراع الدائر بقطاع غزة، عبر اللقاء بالمسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي، ورئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي.
وفيما تحدث مراقبون أمس عن أن زيارة السوداني تأتي لمحاولة الحصول على دعم إيراني لتهدئة الفصائل المسلحة ومنع التصعيد ضد المصالح الأمريكية، أشاروا إلى أن رئيس الحكومة سيحمل رسائل وتحذيرات واشنطن إلى طهران، الأمر الذي نفته وزارة الخارجية الأمريكية.
وفي مقال بصحيفة "آرمان ملي" الإيرانية ذات التوجه الإصلاحي، قلل مختصون بالقضايا الدولية، من شأن "الوساطة العراقية" في ظل عدم وقف إطلاق النار، أو تفعيل الدبلوماسية وإطلاق سراح الأسرى، مبينة أن رسائل بلينكن للجانب الإيراني تمثلت بضبط الوضع في المنطقة، وعدم توسيع الحرب أو فتح جبهة جديدة.
من جهته، يؤكد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، خلال حديث لـه، أن "زيارة وزير الخارجية الأمريكي لبغداد تحمل أهمية استثنائية في التعامل مع الحكومة العراقية باعتبارها الحكومة والسلطة الدستورية في إطار التحالف الاستراتيجي والشراكة الأمنية والاقتصادية والسياسية بين العراق واشنطن، والزيارة جاءت من أجل تحميل الحكومة العراقية مسؤولياتها طبقا للاتفاقية الاستراتيجية بين البلدين بحماية السفارة والمصالح الأمريكية".
ويضيف فيصل، أن "استهداف القوات الأمريكية الموجودة في العراق بضيافة الحكومة والسلطات الأمنية يشكل انتهاكا للسيادة العراقية ويخالف الاتفاقيات بين البلدين"، لافتا إلى أن "استمرار هذه العمليات هو إعلان حرب من قبل الفصائل العراقية الموالية لإيران، وهذا يضع الحكومة العراقية تحت تهديد أمني يهدد استقرار الدولة".
ويبين أن "السوداني أكد لوزير الخارجية الأمريكي، بأنه سيتّخذ القرارات والإجراءات مع حلفائه من الكتل والأحزاب على إيقاف هجمات الفصائل المسلحة ضد الأهداف والمصالح الأمريكية، وبخلاف ذلك سيكون لوزارة الدفاع الأمريكية رد عسكري على استمرار استهداف قواتها في العراق، وهذا هو أبرز ما حمله وزير الخارجية الأمريكي من رسالة إلى الحكومة العراقية".
ويتابع مدير المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية أن "السوداني حمل خلال زيارته إلى طهران رسالة التحذير الأمريكية، وطلب التهدئة من أجل أن لا تتوسع الحرب لتشمل كل منطقة الشرق الأوسط والخليج، لأن هذا الأمر ينذر بكارثة كبيرة وخطيرة، خصوصاً بعد وصول التعزيزات العسكرية الأمريكية المختلفة في الشرق الأوسط والخليج".
وكان السوداني وصل إلى طهران أمس الاثنين في أول محطة لجولة إقليمية بدأها لبحث أوضاع غزة، تشمل أيضا عواصم خليجية، والتقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والمرشد الإيراني علي خامنئي، وعبر من هناك عن رفضه لأي قرار من شأنه جر المنطقة إلى حرب شاملة تهدد السلم الأهلي والأمن في المنطقة والعالم.
من جهته، يشير المحلل السياسي المقيم في واشنطن نزار حيدر، خلال حديث لـه، إلى أن "الزيارة الخاطفة لوزير الخارجية الأمريكي إلى بغداد جاءت لتذكير العراق بأمرين مهمين؛ الأول، بالتزاماته في حماية المنشآت الأجنبية بكل أشكالها وخاصة القوات العسكرية، وإذا عجزت بغداد في تنفيذ التزاماتها بهذا الصدد، فأن الولايات المتحدة ستدافع عن نفسها بكل السبل".
ويضيف حيدر، أن "هذا التحذير فسره البعض بأنه تذكير لبغداد بعملية المطار عام 2020، و بلينكن وجه رسالته مباشرة إلى هذه الفصائل وهو في بغداد سواء برمزية ارتدائه الرداء الواقي من الرصاص أو بالمؤتمر الصحفي الذي عقده في سفارة بلاده في بغداد".
ويبين أن "زيارة السوداني إلى طهران كان لإقناع الأخيرة بعدم زج العراق بأي نوع من أنواع التصعيد والمواجهة مع الولايات المتحدة من خلال تحريك وكلائها لتنفيذ الهجمات المسلحة على مقار ومنشآت القوات الأجنبية في العراق، كما ان قول المرشد الإيراني الأعلى بأن بإمكان العراق أن يمارس ضغوطاً سياسية على الولايات المتحدة الأميركية لوقف جرائم الكيان الصهيوني في غزة، تفهم إيراني استباقي للموقف العراقي من التصعيد المحتمل".
وختم المحلل السياسي المقيم في واشنطن، أن "السوداني حمل معه إلى طهران رسالة أمريكية تحذيرية من أي تصعيد ضد الأهداف والمصالح الأمريكية في العراق وعموم المنطقة، خصوصاً أن التحذير الأمريكي كان جادا في الرد على أي هجوم يسبب خسائر أمريكية بشرية أو مادية".
وكان خامنئي أكد لدى استقبال السوداني بحضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وعدد من المسؤولين العراقيين والإيرانيين، أن العراق بلد مهم في المنطقة، وبإمكانه لعب دور خاص في الضغوط السياسية من قبل الدول الإسلامية على أميركا والكيان الصهيوني لوقف المجازر بحق أهل غزة، وأن يخلق مساراً جديداً في العالمين العربي والإسلامي على هذا الصعيد.
يشار إلى أن الفصائل المسلحة في العراق، دخلت على خط أزمة غزة منذ البداية، وعادت لاستهداف القواعد الأمريكية في بغداد وأربيل، فضلا عن الموجودة في الأراضي السورية، ويجري الاستهداف بشكل يومي عبر الطائرات المسيرة.
وقد ردت واشنطن على هذا الاستهداف، عبر قصفها مقار وعجلات تابعة للحرس الثوري الإيراني في منطقة آلبو كمال المحاذية للحدود العراقية في الجانب السوري، والتي تشهد تمركزا للقوات الإيرانية منذ سنوات.