.يضرب ثالوث الحروب والاهمال وشح المياه، منذ عقدين حقول نينوى الزراعية ليحولها سريعا الى صحارى وأراض جرداء في ظل تسارع وتيرة التغير المناخي، فيما يلتهم التوسع السكاني ببنائه الأفقي ما يبقى من أراض، ليزيد من حالات النزوح في غربي وجنوبي المحافظة لتتحول الى ظاهرة تحمل نتائج كارثية. يقول متخصصون ان لا سبيل لمواجهتها الا بالبدء الفوري بمشاريع “حصاد المياه” ببناء عشرات السدود الصغيرة لإعادة الحياة الى حقول نينوى المحتضرة.
حمادة نجم (43 سنة) مزارع من سكان قضاء البعاج غربي محافظة نينوى، يتطلع بحيرة إلى إرضه الجرداء البالغ مساحتها 100 دونم، والتي كان قد تخلى عن زراعتها قبل خمس سنوات بسبب قلة الأمطار وجفاف الآبار، وانتقل مع أشقائه وعائلاتهم للسكن في منطقة الهرمات بالجانب الأيمن لمدينة الموصل.
تحولت عشرات آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية في مناطق غربي نينوى والتي كانت تشكل مصدر حياة آلاف الأسر، بل ومصدر ثراء لبعض العائلات، الى مساحات جرداء في ظل التغير المناخي ونتيجة غياب السياسات الحكومية الداعمة لتطوير الزراعة بما فيه اكمال مشاريع ري مخطط لها منذ عقود من الزمن.
يقول نجم، وهو يشير الى أرضه التي باتت مرعى لقطعان الماشية “في السنوات الأخيرة أصبحت الزراعة في مناطقنا مثل لعبة القمار، فإما تتساقط الأمطار وينمو الزرع ويعم الخير أو تكون سنة قحط فنخسر عشرات ملايين الدنانير التي صرفناها على توفير الحبوب والمبيدات وباقي المستلزمات”.
يتابع، وهو يمسح قطرات عرق علقت على جبينه:”مررنا بظروف صعبة، خسرت أنا واخوتي كل ما نملك تقريباً وتراكمت علينا الديون، لذلك كان علينا بيع ما تبقى من الماشية وترك أرضنا التي ورثناها والبحث عن أي عمل آخر في الموصل لإعالة أسرنا”.
بينما عمل نجم كسائق سيارة أجرة، انخرط أشقاؤه في مجال البناء والنقل البري، ولا أحد منهم يخطط للعودة مجددا للزراعة، مفضلين مواصلة حياتهم في المدينة وعدم المخاطرة بالعمل في الأرض، لا سيما ان أبناءهم باتوا يشعرون بالإنتماء للمدينة.
لكن نجم كلما مر بالبعاج، يقف عند ارضه ويحدق مليا في كل بقعة منها، يلتقط أحيانا صورا للذكرى. يقول وهو يسحب نفسا عميقا:”جئت لزيارة بعض الأقرباء، فمررت بالأرض.. الكثيرون طلبوا مني العودة، لأن الموسم الزراعي الماضي كان جيداً، والحالي يبشر بخير كثير، لكني خائف، انها مغامرة”.
يلقي نظر سريعة على الغيوم المتجمعة في السماء:”لايمكن الوثوق بها، فكثيراً ما عبرت أراضينا دون أن تجود علينا بالمطر”.
تغيير مناخي وحروب
تعد نينوى ثاني أكبر محافظة عراقية بعد العاصمة بغداد، تبلغ مساحتها 37 323 km². ويقطنها أكثر من أربعة ملايين نسمة، نصفهم في مركز المحافظة قضاء الموصل (405كم شمال بغداد)، والنواحي المرتبطة بها، والنصف الآخر في الأقضية والنواحي.
عرفت قبل عقود بأنها “سلة خبز العراق” إذ كانت تضم 45%من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة على مستوى البلاد، وفيها أكبر مساحة مراعي طبيعية، والعدد الأكبر من الماشية، ومنشآت كاملة لتربية الدواجن قوامها نحو 400 حقلاً، وأحد عشر مجزرة وعشرين معمل علف وأكثر من عشرة مفاقس.
ووفقاً للخبير الاقتصادي مصعب خالد، فأن ثمة مقومات وعوامل أخرى منحت نينوى أهميتها الزراعية والتجارية، منها وقوعها في القسم الشمالي الغربي للعراق على الحدود مع سوريا وتركيا، فشكلت بذلك منفذا دولياً مهما في الجهة الغربية للبلاد، مع وجود سكة حديد، وشبكة طرق وصوامع، ونهراً كبيراً كدجلة يقطعها من الشمال إلى الجنوب.
اضافة الى وجود بحيرة سد الموصل التي كان يفترض ان تؤدي مهام إروائية في شرقي وغربي وجنوي نينوى عبر حلقات من المشاريع الاروائية الاستراتيجية.
“غير أن حروب النظام السابق وبعدها العقوبات الاقتصادية التي امتدت 25 عاما، ومن ثم ظروف البلاد الأمنية نتيجة انتشار الجماعات المسلحة وسيطرة تنظيم داعش على نينوى في 2014 والأوضاع السياسية المتقلبة، كلها منعت إكمال تلك المشاريع” يقول خالد.
ويضيف الخبير الاقتصادي: “عقود من اهمال القطاع الزراعي، أكمل عليها التغير المناخي، بما حمله من جفاف، فضرب التصحر أجزاء واسعة من المحافظة، لتفقد بذلك مكانتها وأهميتها القديمة”.
تلك العوامل السلبية، أدت الى تخلي آلاف المزارعين عن العمل في أراضيهم التي باتت مساحات جرداء غير مستغلة.
يؤكد جانبا من ذلك، تقرير صدر في شباط/فبراير 2024، عن مرصد العراق الأخضر، ذكر أن محافظتي نينوى والبصرة تضمان أكبر مساحات أراض زراعية غير مستغلة على مستوى البلاد، وأن احتلال داعش لنينوى واعمال التخريب التي حدثت فيها أضرت بأراضيها الزراعية.
ذلك الواقع بنتائجه الكارثية على تدهور التربة وفرص العمل، بما ستحمله من عواقب على حياة السكان ومواطن استقرارهم، رصدته مؤسسات محلية ودولية، فحذر تقرير بيئي مشترك لمنظمتي “سوليداريتي” الدولية و”حماة نهر دجلة” العراقية، صدر في شباط/فبراير2023 من احتمال نزوح نحو مليوني شخص من سكان المناطق الغربية من محافظة نينوى خلال العقد المقبل بسبب الجفاف ونضوب مصادر المياه نتيجة احتباس الامطار في سنتي 2021 و 2022.
يقول المهندس الزراعي، فاروق صابر، ان تأثيرات الأعمال العسكرية على الأراضي الزراعية، يمكن تداركها بمرور الوقت واقناع المزارعين بالعودة إلى مهنتهم من خلال توفير الدعم الحكومي وحماية المنتج الزراعي المحلي من سطوة المستورد.
ويستدرك:”لكن ما لايمكن معالجته بسهولة، هو الجفاف وزحف الرمال، بسبب التغيرات المناخية التي يقع العراق تحت تأثيرها منذ تسعينيات القرن الماضي”.
ويضيف إلى ذلك، تداعيات إكمال تركيا للسدود التي تبنيها في أراضيها بالقرب من منابع نهري دجلة والفرات، والتي تخفض كميات المياه التي تصل الى العراق بشكل كبير وغير مسبوق، وكذلك قطع إيران للروافد النابعة من أراضيها الى نهر دجلة”.
ويرى بأن على المسؤولين في الحكومة تكثيف الضغوط على تركيا لإطلاق كميات أكبر من المياه للنهرين وضمان حصص عادلة، إلى جانب:”إحداث ثورة في مجال استخدام المياه في الزراعة، بإعتماد وسائل الري الحديثة لتقليل الهدر، وإستثمار الموارد المائية على افضل وجه”.
بعد موسم مطري جيد في العام 2023، استعادت نينوى بعض بهائها الزراعي القديم، عندما بلغ إنتاجها من محصول الحنطة ما يزيد عن مليون طن بحسب معاون مدير زراعة نينوى عبد الله حمو، لتحتل مكان الصدارة على مستوى البلاد.
لكن تلك الطفرة الانتاجية، تظل مؤقتة ومهددة، كونها تحققت بفضل الانتاج الجيد للمناطق الواقعة ضمن ما يعرف بالخط المطري، حيث هطلت الأمطار في أوقات مناسبة، لكنها قد تحتجب في المواسم المقبلة، في حين أن المناطق الأخرى التي تعتمد على مياه السقي، كان الإنتاج فيها محدوداً.
وهذا ما يفرض على المزارعين وبمساعدة الحكومة المحلية، التوجه نحو حلول مستدامة تضمن انتاجا ثابتاً لا يعتمد فقط على معدلات التساقط المطرية، بحسب المهندس فاروق.
تضخم سكاني وتجاوز على القانون
“الجفاف، تراجع مياه نهر دجلة، التدهور الأمني” الثالوث الذي يُرجِع له متخصصون، التدهور الحاصل في قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية بنينوى. لكنها ليست التحديات الوحيدة، فمشكلة التضخم السكاني وما يتبعه من توسع عمراني “سبب آخر لايقل خطورة وأثراً”.
فمع التراجع المستمر في مساحات الأراضي الصالحة للزراعة بسبب تمدد الصحراء نتيجة التغير المناخي، يتم تقليص تلك المساحات أيضا، من خلال التمدد السكاني عليها.
الخبير المساحي المتقاعد في التسجيل العقاري، مازن عبد الله، يقول بأن مدينة الموصل تضاعف حجمها عدة مرات خلال عقدين فقط، فعلى الرغم من عدم تنفيذ أي مشروع للتوسع السكاني منذ نحو أربعة عقود، إلا أن التوسع العشوائي أكل “مئات الآلاف من الأراضي الزراعية حول مدينة الموصل المعروفة بخصوبتها”.
ويشير إلى أن عدم تطبيق القوانين بعد 2003، شجع عشرات الآلاف على استغلال الأراضي الزراعية لأغراض البناء “وهذا أمر مخالف للقانون، ويعد تجاوزاً على أملاك الدولة، لأن الأراضي الزراعية كلها، مملكوكة للدولة، وحقوق التصرف تعود إليها، في حين للمزارعين حق استغلالها فقط”.
ويعدد التجاوزات التي حدثت واسبابها: “الهجمات الإرهابية ضد التركمان والشبك والايزيدية وحتى المسيحيين الذي كانوا يعيشون في الموصل، أضطرهم للنزوح إلى مناطق تواجدهم التاريخية في سهل نينوى وسنجار وتلعفر، وبناء بيوتهم على أراضيها الزراعية دون ان يعودوا الى مهنة الزراعة”.
ويلفت كذلك، إلى أن التضخم السكاني في الموصل وباقي البلدات التابعة لنينوى، وندرة الأراضي المخصصة للسكن مع اعتماد البناء الأفقي، نشط عملية البناء على الأراضي الزراعية في محيطها، وهكذا ظهرت الجمعيات التعاونية السكنية، التي تشتري أراضي زراعية، ثم تقوم بتقطيعها وتوزيعها على أعضائها “هنالك العشرات منها، وكلها متجاوزة على أملاك الدولة، وأتت على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية”.
معد التحقيق تواصل مع مصدر في التخطيط العمراني بمحافظة نينوى، وعلم منه أن الموصل بحاجة إلى بناء أكثر من 200 ألف وحدة سكنية جديدة، وأن التوسع لايشمل فقط مدينة الموصل بل كل الوحدات الإدارية في نينوى، مقدراً ما خسرته نينوى من أراضيها الصالحة للزراعة بسبب التوسعات السكانية بما يزيد عن 20% خلال العقدين الأخيرين في ظل شيوع ثقافة البناء الأفقي.
ويوضح أن الموصل أكملت اعداد مشروع توسيع التصميم الأساسي بما يصل إلى سبعة كيلو متر كشعاع من حدودها الحالية ولكامل محيطها، مما يعني بناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية على أراض هي في الأصل زراعية.
نشوان شاكر مصطفى مسؤول الإعلام البيئي في نينوى، يؤكد بدوره أن التحدي الذي يواجه البيئة والقطاع الزراعي بنحو مباشر يتمثل في زيادة أعداد السكان والتوسع العمراني الأفقي، على حساب المساحات الخضراء، ويقول :”هنالك زحف كونكريتي على المناطق الزراعية في نينوى”.
إلى جانب ذلك، ينبه الى سوء إدارة الموارد المائية:”صحيح أن هنالك موجات جفاف، لكن أيضاً هنالك هدر كبير للمياه، فلو تم حبس مياه الأمطار الغزيرة التي تتساقط في الشتاء والربيع، يمكن الإفادة منها في موسم الصيف، لكن ما يحدث حاليا هو ذهاب تلك الكميات الكبيرة سدى”.
ويشدد على أن معالجة الواقع البيئي، يجب أن تكون على رأس قائمة الاهتمام “لأن التغييرات المناخية باتت مشكلة عالمية كبرى”، مشيرا الى بعض مصادر التلوث المهددة لبيئة نينوى “هناك 400 ألف مركبة مختلفة الأحجام تجوب شوارع المحافظة، فضلاً عن حقول النفط في جنوب الموصل”.
حلول غير كافية
وفقاً لتقارير دولية، العراق هو خامس البلدان الأكثر عرضة للتدهور المناخيّ في العالم، بالنظر إلى الظواهر المناخيّة العنيفة مثل درجات الحرارة العالية، وتراجع كميات الأمطار المتساقطة، وشح مياه الأنهر، وتكرار العواصف الرملية والترابية.
وشهد العراق في السنوات القليلة الماضية عشرات العواصف الترابية. ويتوقع مختصون في البيئة ارتفاع عددها ليصل الى 300 عاصفة سنويا في العام 2050، بينما لم تكن تتجاوز في الفترة ما بين عام 1950 إلى عام 1990 الـ 25 عاصفة سنوياً.
وكما في نينوى، شهدت محافظات العراق الجنوبية حالات نزوح متزايدة للسكان، وارجع 94% من النازحين السبب الأول لنزوحهم الى ندرة المياه. والى جانب النزوح من القرى الزراعية التي ضربها التصحر، هناك نزوح كبير من سكان الأهوار نتيجة انحسار المياه فيها بنسبة تجاوزت الـ85%، ففي محافظة ذي قار وحدها تم توثيق نزوح 1400 عائلة من سكنة الأهوار في الأعوام الثلاثة الأخيرة، تخلت أغلبها عن مهنة الزراعة وتربية المواشي.
ذلك الواقع، دفع جهات رسمية ومنظمات مدنية، الى اطلاق حملات تشجير لمواجهة نتائج التغير المناخي، منها حملة العراق الأخضر التي نفذتها وزارة الزراعة بالتعاون مع البنك المركزي العراقي عبر مبادرة (تمكين).
وشملت الحملة في نينوى وفقاً للمهندس الزراعي ياسر صالح محمد مدير مشروع غابات نينوى، زراعة 17 ألف شتلة شجرة في منطقة غابات الموصل، والأراضي التابعة للوحدات العسكرية والمؤسسات الحكومية والمدارس وجامعة الموصل وعدد من النواحي والأقضية التابعة للمحافظة.
لكن ذلك لا يشكل فرقا، في محافظة خسرت مساحات واسعة من غاباتها وأراضيها الزراعية في العقود الثلاثة الأخيرة نتيجة الحروب والاهمال والتغير المناخي أخيرا.
يقول المهندس الزراعي أنس الطائي، أن مدينة الموصل خسرت ما يقرب من 90% من مساحاتها الخضراء جراء الأعمال العسكرية التي حدثت فيها ونتيجة إهمال هذا الملف من قبل الحكومات وتناسي المجتمع لثقافة التشجير التي كانت سائدة في نينوى سابقا.
لهذا قام الطائي مع أصدقائه باطلاق حملة تثقيف عن أهمية زراعة الأشجار، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مؤمنا بأن قيام كل عائلة بزراعة بضعة أشجار يمكن ان يساهم في تغيير وجه الموصل وأجوائها.
ويقول ان حملته التي جاءت بدعم من المركز الفرنسي في الموصل، نجحت في زراعة الأشجار بالأماكن العامة ومراكز العبادة والمؤسسات العسكرية، ومعها بدأت منظمات دولية بتقديم عروض لدعم زراعة الأشجار وادامتها.
من بين الحلول الأخرى، التي يقترحها مختصون من خلال وسائل التواصل، زراعة أنواع جديدة من الأشجار والنباتات في البيوت والشوارع تتلائم مع بيئة نينوى وتساهم في تقليل درجات الحرارة وأثر العواصف الترابية، كزراعة “الصبار” و”الفستق” ونباتات أخرى، يعتقد أنها لا تحتاج إلى مياه وفيرة وتحمل تأثير بيئي بالغ.
لكن المهندس الزراعي ماجد ياسر يعقوب، يشكك بجدوى تلك الحملات “الناس تبدي في البداية حماسا للتشجير، لكنه سيفتر، والشتلات المزروعة ستهمل وتموت بسبب عدم الاهتمام، كما حدث لحملات سابقة”.
يعقوب الذي أسس مشتله المنزلي الخاص في حي الزهور شمال مدينة الموصل، يرى أن الجهود الرسمية وغير الرسمية، ينبغي أن تتوجه نحو تنفيذ مشاريع مخطط لها جيدا لإنقاذ الزراعة، واستعادة المساحات التي دفنتها الرمال ودمرها الجفاف.
يقول بنبرة ساخرة:”نينوى تحتاج الى رصد المبالغ لإنجاز المراحل المتبقية والمتعطلة منذ عقود من مشروع ري الجزيرة، الذي بوسعه تحويل اغلب مناطق المحافظة إلى مساحات خضراء ويوفر فرص عمل لعشرات الآلاف، بدل حملات دعائية تقوم خلالها بعض الدوائر الحكومية بزرع بضعة أشجار تشتريها من المشاتل وتزرعها على الأرصفة ثم تتركها دون رعاية”.
ومشروع ري الجزيرة، هو أحد المشاريع الإستراتيجية المخطط لها منذ أكثر من نصف قرن وفشلت الحكومات العراقية المتعاقبة في إكمال تنفيذه بسبب الحروب وافتقار التمويل والإمكانات الفنية الوطنية لإنجازه، وهو مصمم لري مئات آلاف الدونمات اعتمادا على مياه سد الموصل، ليستفيد منه نحو نصف مليون مزارع في مناطق غربي وجنوبي نينوى.
حصاد المياه
“ثمة حلول أخرى قابلة للتنفيذ” إن لم يكن بالوسع المضي في مشاريع استراتيجية مخطط لها منذ زمن وتتطلب اعادة دراسة جدواها في ظل تغير معطيات أساسية ككميات المياه المتوفرة. هذا ما يقوله الخبير الجيولوجي فرهاد قادر، مؤكدا وجود 68 موقعاً صالحاً لإنشاء سدود لحصاد مياه الأمطار، العديد منها يمكن إنشاؤها في غربي محافظة نينوى.
ويتابع:”تشهد المناطق الغربية للمحافظة، أمطار غزيرة تنهمر دفعة واحدة وتتحول الى سيول خلال فصل الربيع، وتغرق أحيانا قرى بأكملها، ثم تختفي دون أي فائدة تذكر”.
ويتم “حصاد المياه” بتحديد مسارات السيول وتوجيهها نحو وديان عميقة لحجزها هناك ما ينشيء خزانات ماء كبيرة “يمكن الإفادة منها في ري المزروعات في محيط المكان، لتعود معها المراعي الطبيعية إلى ماكانت عليه قبل عقود، وتتحول إلى مناطق سياحية، هذا فضلاً عن تعزيز المياه الجوفية”.
سيول غربي نينوى مطلع نيسان 2024
ويقول الخبير الجيولوجي فرهاد، ان نجاح حصاد المياه، يعتمد على “كميات الأمطار الهاطلة، ونوعية التربة التي ستمر المياه فوقها أو تمكث فيها” وهو ما يحتاج الى دراسة من اجل تحديد افضل الأماكن الصالحة للحصاد.
مجلس محافظة نينوى ناقش في واحدة من جلساته بعد تحرير المحافظة من داعش في صيف 2017، إنشاء سدود لحصاد المياه، لكن حل المجلس في العام 2019 ومعه مجالس المحافظات في باقي محافظات العراق، إثر مطالبات شعبية بإصلاحات سياسية، عطل فرصة اطلاق مشاريع للحصاد.
وكان وزير الموارد المائية عون ذياب، قد أكد عبر تصريحات صحفية عزم وزارته تشييد 36 سدا لحصاد المياه خلال سنة 2024، توزع في الصحراء الغربية ووادي السماوة والمناطق الشمالية والجنوبية والشرقية من البلاد. وذكر بأن أعمال الدراسات والتصاميم والتحريات الأولية الخاصة بها قد تم إكمالها.
وفي وقت لاحق ذكر مدير عام الهيئة العامة للسدود والخزانات علي راضي ثامر، بان اجتماعات فنية عقدت مع الفرق المكلفة بدراسة انشاء سدود حصاد المياه، وهي سد “الأبيض” في بادية محافظة كربلاء ضمن الصحراء الغربية، وسدّا “الخرز والمهندس” في بادية السماوة، و سدّا “الداهولي والعجيج” ضمن قضاء سنجار في محافظة نينوى.
وفي آلية الحصاد، يقترح موظف في دائرة الموارد المائية بمحافظة نينوى، طلب عدم الإفصاح عن اسمه، الإستفادة من مجرى نهر دجلة في مناطق مروره بالمدن، كالموصل وبغداد، عن طريق تحويله إلى خزان ماء كبير، يمتلئ في فترات الوفرة.
ويقول:”يمكن كري المجرى بعمق يتراوح بين 20 إلى 40 متر، وبطول يمتد بين 10 إلى 20 كيلو متر، فيصبح لدينا خزان ماء هائل، يحقق وفرة دائمة من المياه للسكان، الى جانب الفائدة منها في الزراعة، ولن تتأثر محطات التنقية بالعكورة وغيرها، كما يمكن تنمية الثروة السمكية، وتحويل الضفتين إلى واجهات سياحية”.
ويكشف الموظف أن مجلس محافظة نينوى إقترح هكذا مشروع سنة 2009، لكن المحافظات التي يمر بها نهر دجلة اعترضت عليه خوفا من حبسه للمياه:”مع أن بالوسع ملأه بمياه الأمطار في فترات الهطول الجيدة، حيث تدخل تلك المياه المجرى وتذهب غالبا دون أي فائدة”.
مقترح مشروع تنموي
البروفيسور د.مروان متعب، باحث أكاديمي ورئيس سابق لنقابة الجيولوجيين العراقيين، يؤكد بأن لديه مشروعاً تنموياً متكاملاً يرتبط بحصاد المياه، يطلق عليه (المشروع الحضاري لازدهار العراق) ويقول أنه كفيل “بحصاد وتعظيم كميات الثروات المائية السطحية والجوفية”، وتحويل جزء من الثروات الطبيعية للبلاد الى “ثروات مستدامة ومتجددة”.
ويشير الى ان المشروع سيساهم بشكل فعال في تطوير الزراعة والتصنيع الغذائي والسياحة، وتحسين المناخ والبيئة، فضلا عن توفير فرص عمل.
ويرى د. متعب أن مشكلة المياه في العراق ليست بالكميات بل بكيفية الحفاظ عليها بالتجميع والتقنين والحماية من التبخر والتلوث.
ويتضمن المشروع الذي قدمه مقترحا للحكومة العراقية، حلولا لمشكلة تراجع مياه نهري دجلة والفرات، من خلال إنشاء سدود صغيرة عليهما، وعلى روافدهما وشط العرب، يقدرها بنحو مئتي سد، مما يؤدي إلى تنشيط الزراعة وتأمين الأمن الغذائي والمائي لجميع سكان العراق، على حد قوله.
ويلفت إلى أن ذلك سيسهل عملية إستغلال السهول الفيضية (Flood Plains ) المحيطة بأنهار العراق كافة، ذوات الترب الخصبة جداً Fluvial Soil التي يقدر مساحاتها بأربعة مليون دونم، ويمكن لوفرة المياه فيها، زراعتها بالفواكه والخضار والأعشاب الدوائية.
ولضمان نجاح المشروع يشدد على ضرورة استخدام وسائل الري الذكية، وتوفير البنية التحتية من سكن وطاقة مستدامة وطرق وخدمات صحية وتعليمية في هذه السهول الفيضية، وعمل شبكة من أنابيب تصريف المياه الثقيلة ومحطات معالجة الصرف الصحي لمنع تلوث المياه السطحية والجوفية.
المشروع وفق ما هو مرسوم يشمل استخدام الوسائل الحديثة في تربية واستثمار الثروة الحيوانية قرب بحيرات السدود، وإنشاء معامل للتصنيع الزراعي كالتعليب والتجفيف والتجميد، مع مشاريع تنمية الثروة السمكية في الأحواض.
ويعتقد بأن تنفيذ المشاريع التي يتضمنها مقترحه، سيؤدي إلى خلق مئات الآلاف من فرص العمل، بينما ستؤمن سدود حصاد مياه الأمطار “ما لايقل عن 8 مليار متر مكعب سنويا في الأعوام التي تقل فيها الأمطار، وتتضاعف في السنوات الممطرة، لأن الوديان في عموم العراق ستصب مياهها في فروع ونهري دجلة والفرات مما سيخلق ثروات مائية متجددة”.
ومع امتلاء السدود والبحيرات الصغيرة، يمكن سحب مياهها إلى مناطق شرق وغرب فروع النهرين بما فيها مناطق “الجزيرة غرب الموصل و صحراء الأنبار والنجف و السماوة والكوت والعمارة والبصرة” وذلك باستخدام شبكة أنابيب مختلفة لري المحاصيل بزراعة مقننة وذكية.
ويتم تأمين المياه عبر الأنابيب للمجمعات السكانية التي تتضمن محطات تصفية وتنقية لأغراض الشرب “بدل استخدام القنوات المفتوحة التي اثبتت فشلها بسبب تلوث مياهها وتبخرها والتجاوزات عليها”.
وسيؤدي المشروع، كما يقول د. متعب، إلى تحسين التربة والمناخ من خلال زراعة ملايين الأشجار وانشاء غابات في الجزيرة والمناطق الجرداء ما يقلل من أثر التصحر.
لتأمين الأموال الطائلة التي يحتاجها المشروع، الذي يعتقد انه قابل للتنفيذ من قبل شركات عالمية متخصصة خلال فترة لا تتجاوز ثلاثين سنة، يقترح منح تلك الشركات دفعات يومية من النفط “خارج حصة أوبك”، ويستدرك:”سيتم تحويل جزء من النفط المنتج إلى مشاريع اقتصادية عملاقة” بدل ان تهدر في نفقات تشغيلية.
وعن سبب تفضيله السدود الصغيرة على الكبيرة، يقول الخبير الجيلولوجي ان الكبيرة تشكل خطراً على حياة وأملاك الملايين، وهي تغير خصائص المياه وتزيد من ملوحة مياه الأنهار كما يحدث لدجلة والفرات في المنطقة الجنوبية، كما تزيد من معدلات الرطوبة في أجواء المدن المحيطة بالسد.
كما ان هناك سببا آخر يتمثل في الكلف المادية الكبيرة للحقن اليومي للتكهفات والتجاويف تحت أجسام السدود الكبيرة، وقبلها الكلف العالية لإنشائها وديمومة إدارتها وصيانتها، الى جانب مشكلة تحويل ترب السهل الفيضي للنهر ما بعد السدود إلى ترب ملحية (سبخة)غير مفيدة للزراعة مع الزمن.
ويشير الى مخاطر السدود الكبيرة بسبب الزلازل، وارتفاع احتمالية غمر قرى وبلدات تاريخية تحت مياهها، الى جانب مشكلة تهجير عشرات آلاف الناس من موطنهم الاصلي.
في سوق “المعاش” بالجانب الأيمن لمدينة الموصل، تعج المحال التي تعرف بـ”علاوي الخضراوات والفواكه” بمنتجات زراعية مستوردة من الخارج، غالبيتها إيرانية وتركية، يتنافس البائعون في أغلب أشهر العام على عرضها وبأسعار أقل من المنتوج المحلي.
يقول أبو محمد، وهو بائع تجاوز الستين من عمره: “هذه المحافظة كانت تبيع محاصيلها في كل العراق، وتصدر بعضها الى خارج البلاد، بات هذا حالها اليوم. ماذا نقول كل شيء يسير بالمقلوب”.
نواف خزعل الياس، مزارعٌ ومربي ماشية من سهل نينوى، يقول بأنه باع جزءاً من أرضه الزراعية والتي كانت بستاناً، لجمعية إسكان قبل عدة سنوات، هو اليوم يشعر بالندم لأجل ذلك، لكنه مع ذلك يقول:”كنت أزرع سنة واتوقف سنة أو سنتين والوارد محدود، بينما الجمعية دفعت لي مبلغا كبيرا جداً في الأرض”.
ليس هو الوحيد الذي فعل ذلك، بل العشرات في سهل نينوى ومحيط الموصل باعوا أراضيهم الزراعية لجمعيات إسكان، لا سيما في مناطق شمال مدينة الموصل، بعد ان يئسوا من ادامة حقولهم بسبب شحة المياه وتمويل متطلبات الزراعة وضمان منتوج جيد، الى جانب التسويق في ظل تخبط القرارات الحكومية واغراق السوق بالمنتوج المستورد.
ويشتكي من آثار التقلبات المناخية “في مواسم التساقط المطري الجيد، ومع وفرة المحصول لا نجد اسواقا لتصريف منتجاتنا فنتكبد خسائر كبيرة، وفي مواسم الشح نخسر كل شيء”.
نواف الذي يصارع الطبيعة للحفاظ على قطيع الماشية الذي يملكه، يقول ساخرا:”في العامين الأخيرين زرعت لإطعم خرافي وابقاري، واضطررت لشراء الأعلاف لها من السوق، ربما الوضع في هذه السنة افضل بسبب وفرة الأمطار، لكن الزراعة في العراق تتدهور يوماً بعد يوم، وشحة المياه مشكلة واحدة ضمن مشاكل كثيرة تواجهنا، والدولة لا ترانا هي غائبة عن ايجاد الحلول”.
*انجز التحقيق تحت اشرف شبكة “نيريج” ضمن مشروع قريب المدعوم من قبل CFI