إنه موسم الخريف، بدأت الأسراب البيض ترسم أشكالها الهندسية في سماء العراق، مجموعات من الطيور البيضاء على شكل مثلثات ومستقيمات وزوايا حادة ومنفرجة تواصل التحليق نهارا وليلا قادمة من موطن إلى آخر أكثر دفئا، ولطالما كان جنوب العراق وجهتها الأثيرة.
لكن أسراب الفلامنكو والبجع وطيورا بلطية أخرى بلونها الأبيض الزاهي، القادمة من سيبيريا وأوروبا وأواسط آسيا، ستواجه مصيراً محزنا في العراق هذه المرة أيضاً.
ففي بلد يضربه الجفاف والعطش بقسوة، ويتغوّل التصحر فيه، من الصعوبة أن تجد هذه الطيور فيه مأوى لها، إذ يتوقع الخبير البيئي أحمد صالح، خلال حديث لـه أن هذه الطيور "ستعود أدراجها أو تكمل التحليق إلى وجهة أخرى"، ووفقا لصالح فإن "العراق شهد خلال السنوات الأربعة الماضية ما يقارب ثلاث موجات جفاف قاسية جدا أدت إلى تضرر النظام البيولوجي، وأثر ذلك في حركة الطيور المهاجرة القادمة إلى العراق".
وتأتي ملايين الطيور من أوروبا وسيبيريا والقطبين الشمالي والجنوبي في تشرين الأول أكتوبر قاصدة الأراضي الاستوائية والبلدان الدافئة.
وهجرة الطيور هو حدث بيئي مرتبط بالتنوع البيولوجي، خاصة وأن أغلب أسباب هذه الهجرة مرتبط بالمناخ، كانخفاض أو ارتفاع درجة الحرارة، وأيضا البحث عن طعام أو التزاوج، لكن يبقى السبب الرئيسي لهجرة الطيور مرتبطا بالتغيرات المناخية.
وبالحديث عن أنواع تلك الطيور التي تقصد العراق، يشير صالح، إلى أن هناك "عشرات الأنواع من الطيور المائية والبرية كاللقلقيات والأوز وبعض الأنواع الأخرى التي تمتلك أسماء محلية معروفة كالبجع أو ما تسمى بنعجة الماء والخضيري بأنواعه، والرخيوي والزركي والبربش والمصو والصوصيان والهُرُّبان والكثير من الأنواع الأخرى".
تغيير البوصلة
ويتأسف الخبير البيئي، لأن "الطيور في خريف هذا العام ونتيجة الجفاف حولت بوصلتها عن مدن الوسط والجنوب كالنجف والسماوة والبصرة وميسان، وباتت ترحل إلى إيران لأن المنطقة المشابهة للمناطق العراقية هناك، مازالت تحتفظ بكميات من المياه قادرة على أن تكون بيئة خصبة لهذه الطيور وتوفر موئلا لها يحتوي على غذاء كامل أو شبه كامل".
ويكمل أن "الطيور قررت للمرة الثالثة أن تغير وجهتها نحو المناطق الإيرانية، وبعضها اختار مكانا جديدا في الكويت، فللمصادفة ساهم مصب للمياه الثقيلة في استقطابها بعدما تحوّل لشبه بحيرة آسنة باتت تقصدها الطيور المهاجرة بشكل كبير مؤخرا".
ومازالت أعداد قليلة من الطيور المهاجرة تقصد هور الدلمج، وهو هور صناعي أنشئ منذ الثمانينات بين واسط والديوانية وأصبح وجهة لا بأس بها لعدد قليل من الطيور، بعد أن كانت الملايين منها تحط في أهوار ميسان والناصرية والبصرة التي كانت زاخرة بهذه الأنواع، وفقاً لصالح.
وأبرز هذه الطيور التي تدخل الأهوار العراقية هي هازج قصب البصرة، والزقزاق أبيض الذيل، والنورس الأرميني، وغراب بحر القرم، والثرثار العراقي، والغطاس العراقي، والحذاف الرخامي، والوردة الأفريقية، والبجع الأبيض الكبير، وخطاف المستنقعات الملتحي، والأوز الأغر الصغير، والبلبل أبيض الخدين، والكوشر، والزركي، وأبو زلة، والمصو، والليروي، والفلامنكو، ودجاج الماء، والخضيري.
ويشهد العراق، أقسى أزمة جفاف في تاريخه، حيث اشتدت الأزمة منذ 4 سنوات بسبب تقليل تركيا وإيران للإطلاقات المائية، ولم تمنح تركيا سوى 30 بالمئة من حصة العراق المائية المقررة، فيما قطعت إيران المياه بشكل كامل.
نكبة الصيد
ويمثل الجفاف تحديا كبيرا يهدد مجيء الطيور المهاجرة، لكن ثمة تحديا آخر يجعل رحلة الطيور إلى العراق محفوفة بالمخاطر، وهو الصيد الجائر، إذ يصف سكرتير تجمع حماية البيئة والتنوع البيولوجي أحمد حمدان الجشعمي، خلال حديث لـه ما يحدث لهذه الطيور بـ"النكبة".
ويعاني العراق من شبه انعدام شرطة البيئة، وهي المسؤولة عن منع الصيد الجائر، ووفقا لتقرير سابق لـه فإن عدد عناصر شرطة البيئة في ميسان، المقصد الأول للطيور المهاجرة سابقا، لا يتجاوز الـ20 عنصرا فقط، ولا يملكون الأدوات اللازمة لتنفيذ واجبهم ومواجهة القائمين بالصيد الجائر، فيما كشف مدير البيئة في المثنى يوسف الغانمي لـ"العالم الجديد" في وقت سابق، أن المحافظة لا تملك سوى 6 عناصر من شرطة البيئة.
ويقسم الجشعمي، جيولوجيا العراق إلى "الهضبة الغربية والسهل الرسوبي المتمثل بالمسطحات المائية والمنطقة الجبلية والمتموجة، وهذه الأخيرة مازالت تحتفظ بطيورها بسبب النشاط وتفاعل الوضع البيئي هناك".
أما في السهل الرسوبي المتمثل بالمسطحات المائية، فيتحدث الجشعمي، عن "نكبة كبيرة تحدث بالكائنات التي تصل إلى هناك، فقد تعرضت الطيور إلى إعدام قسري وقتل من قبل صيادين وهواة بشكل ممنهج، حتى أن هناك طيورا لا تؤكل ولا تدر على صائديها الرزق صارت هدفا لنيرانهم لغرض اللهو والبيع وإن كانت بأموال بخسة".
ويتابع أن "الكثير من الطيور غيرت موئلها إلى الأراضي الإيرانية حيث تتمة الأهوار بفضل سياسة إيران البيئية في حماية الطيور ومنع صيدها والاتجار بها، كما أن بعضها وجدت مسارا آمنا لأسرابها من نيران الصيد إذ تسلك الشريط الحدودي بين إيران والعراق".
وفي الهضبة الغربية الممتدة من البصرة إلى نينوى، يتحدث الجشعمي عن "ثلاث صحارى تقصدها أغلب الطيور في أيلول سبتمبر وتشرين الأول أكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر بعد أن تعبر الخليج العربي من أواسط شرق آسيا لتمكث في البادية لحوالي 3 إلى 4 أشهر ثم تكمل طريقها باتجاه إيران وتركيا وأوروبا".
لكن، ووفقا للباحث والناشط البيئي، "حتى هذه الطيور التي تأتي إلى البوادي تتعرض إلى نكبة القتل أيضا من قبل الصيادين والهواة بدافع المتعة دون تفريق بين طير وآخر، فحتى في موسم التكاثر تواجه هذه الطيور فوهات بنادق الصيد".
ويشير الجشعمي، إلى أنواعا أخرى من الطيور التي تقصد العراق مثل "الشواهين والبواشق والنسور، والوز البري والبط والسمان والقطا والحمام، التي تأتي إلى الأراضي العراقية بعضها يبيض ويتخذ من البلد موئلا، وبعضها تكمل مسيرتها إلى أوربا وآسيا".
وأحيت الأمم المتحدة أمس السبت 14 تشرين الأول أكتوبر، اليوم العالمي للطيور المهاجرة، وسلطت المنظمة الضوء على طيور الخرشنة القطبية الشمالية، التي تعد الطائر ذا رحلة الهجرة الأطول في العالم كله.
جدير بالذكر، أنه يتم الاحتفال بالطيور المهاجرة مرتين في السنة، الأولى في السبت الثاني من شهر أيار مايو، والثانية تكون يوم 14 من شهر تشرين الأول أكتوبر، ويكون الاحتفال الأول بالتزامن مع هجرة الطيور من نصف الكرة الشمالي إلى نصف الكرة الجنوبي، ليتم العكس في احتفال شهر تشرين الأول أكتوبر.