ما زال الدفع النقدي "الكاش" سائدا في البلاد، رغم إعلان العمل بنظام الدفع الإلكتروني، فحتى اللحظة يتسلّم الموظف والمتقاعد راتبه كاملا من محلات الصرف المنتشرة في الأحياء السكنية، بدلا من وجود منافذ صرف آلية، ما أفرغ التوجه الحكومي للسيطرة على خط سير الأموال من محتواه، فضلا عن إثقال كاهل المواطن بدفع عمولات لهذه المنافذ وتكبيده عناء الذهاب لها والوقوف بطوابير طويلة أحياناً.
ومن الخدمات العديدة المنتشرة في العراق والخاصة بالدفع الإلكتروني، هي بطاقات الموظفين والمتقاعدين، وسهولة الحصول على بطاقة "فيزا أو ماستر كارد" من البنوك الأهلية، فضلا عن خدمة "زين كاش" وهي محفظة إلكترونية مرتبطة برقم الهاتف، لكن جميعها ما تزال متصلة بمنافذ الصرف النقدي، وتبلغ عمولة بعضها نحو 4 دولارات عن سحب أو إرسال أي مبلغ.
وحول هذا الأمر، يقول الباحث في الشأن الاقتصادي ناصر الكناني، إن "الدفع النقدي أي الكاش، ما زال مستمرا رغم تطبيق التعامل بقضية الدفع الإلكتروني، فالكاش لغاية الآن يغطي كل التعاملات المالية في السوق المحلية، وهذا بسبب عدم وجود ثقافة لدى المواطنين للتعامل بالدفع الإلكتروني، وغياب المتابعة الحكومية لإصدار قرار ملزم للتعامل بهذه الطرق الحديثة".
ويضيف الكناني، أن "غالبية الموظفين رواتبهم موطنة على مصرفي الرافدين والرشيد، المتعاقدين مع شركات مثل كي كارد والنخيل، وهذه الشركات ليست لديها صرافات آلية في المدن، ولهذا يجبر الموظف على سحب راتبه من مكاتب أهلية تسمى منافذ الصرف، لتأخذ منه هذه المكاتب عمولة مقابل صرف راتبه، وهذا الأمر غير موجود لدى الموظفين الذين وطنوا رواتبهم لدى بعض المصارف الأهلية التي تمتلك صرافات آلية، وهنا كان يجب على مصرفي الرشيد والرافدين فرض شروط على تلك الشركات لنشر صرافات آلية".
وكانت خدمة الدفع الإلكتروني، قد انطلقت رسميا في البلاد بداية حزيران يونيو الماضي، بناء على توجيه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، بدءا من محطات تعبئة الوقود، التي جرى تزويدها بالأجهزة اللازمة، بعد أن حدد البنك المركزي العمولة المستحصلة، خاصة إذا كان الدفع والاستلام بين مصارف مختلفة.
إشكالات غريبة
رافق بدء العمل بالدفع الإلكتروني، مشاكل عديدة، وبعضها اعتبر محبطا، في محطات الوقود أو مراكز التسوق الكبيرة، فمنذ تطبيق العمل بهذا النظام كانت أول إشكالية، هي ضعف شبكة الأنترنت، وتلكؤ العمل في الجهاز، ما يوجب تكرار محاولة الدفع لأكثر من مرة أو يرفضها، الأمر الذي أفقد الثقة به لدى عدد من المستفيدين.
ويشكو المواطن سامي فرج (50 عاما) مما يجري معه في محطات الوقود، من خلال عدم توفرها تارة، وتارة أخرى التعامل وفق عقلية الكاش، من خلال عدم سحب المبلغ كما هو بل إضافة مبلغ إضافي لا يترك خردة (فكة)، على حد تعبيره.
ويوضح "فإذا كان المبلغ 19 ألفا و800 دينار مثلا، يقوم الموظف بكتابة 20 ألف دينار، وهي ذات الطريقة التي يتم التعامل بها بالدفع النقدي".
وبالتوجه إلى أحد مراكز التسوق، رصدت الصحيفة غياب جهاز الدفع الإلكتروني، في أغلب المحال التجارية المتوسطة والصغيرة وخصوصا في المناطق الشعبية، واقتصر وجوده على مراكز التسوق الكبيرة وفي مناطق محددة فقط، سواء الأثاث أو المطاعم الفخمة أو الحلويات.
وحتى في تلك المحال أو المراكز التجارية، تم تخصيص محاسب واحد "كاشير" يعمل بالدفع الإلكتروني، وهو الآخر يتعامل بآلية النقد، ولا يكتب المبلغ مثل ما هو، بل يطلب من الزبون شراء قطعة حلوى أو علكة، حتى يوازي المبلغ فئات التعامل النقدي.
يذكر أن الحكومة وبالتعاون مع البنك المركزي، توجهت إلى تفعيل الدفع الإلكتروني قبل أشهر، وذلك خلال الإجراءات المتبعة للحد من التضارب بسعر صرف الدولار، حيث اشتملت حزم الإجراءات على تفعيل الخدمة، وتحديدها بالدينار فقط.
خطوة متأخرة
من جهته، يبين الباحث في الشأن المالي مصطفى أكرم حنتوش،أن "هدف الحكومة من العمل بنظام الدفع الإلكتروني، هو مكافحة عمليات غسيل الأموال وغيرها من الأعمال المالية المشبوهة، لكن حتى الآن هذا الهدف لم يتحقق، فالتعامل بهذا النظام من قبل المواطنين والتجار يكاد يكون معدوماً، والسبب الأول عدم انتشار ثقافة التعامل بهذه الطريقة من الدفع بين المواطنين".
ويؤكد أن "التعامل من خلال الدفع الإلكتروني له أهمية اقتصادية كبيرة، أولها ضمان الاستقرار في الأسواق المحلية، كما أن هذا التوجه يزيد من نسبة الشمول المالي في البلاد، كما يرفع من ثقة المواطنين بالقطاع المصرفي، ما ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد الوطني بشكل عام".
ويشير إلى أن "هناك شكاوى كثيرة من قبل الموظفين من تعامل مكاتب سحب الرواتب، خصوصاً أن بقاء هذه المكاتب يعني استمرار التعامل النقدي".
وكان البنك المركزي العراقي، أعلن في عام 2020، عن إطلاقه خدمة تحويل الأموال بين البطاقات الائتمانية، وحدد سقف التحويل للمرة الواحدة بـ400 ألف دينار أو ما يعادلها بالدولار الأمريكي، فيما تصل حدود المبالغ المحولة خلال الشهر الواحد إلى مليوني دينار أو ما يعادلها بالدولار الأمريكي.
وعلى الرغم من أن بعض المصارف في العراق تصدر بطاقات ائتمانية، إلا أن استخدامها بقي في نطاق محدود، كتسلم حوالات خارجية على سبيل المثال، وعادة ما تكون أجهزة الصراف الآلي قرب فروع البنك فقط، ولا تنتشر في أغلب الأسواق المحلية، ما دفع المواطنين إلى الاعتماد على البطاقات المعبأة مسبقا لاستخدامها في مواقع الإنترنت، كدفع مستحقات أو الشراء.
ويضم العراق، بحسب آخر إحصاء منشور في موقع البنك المركزي العراقي، 80 مصرفا عاملا، منها 62 محليا و18 مصرفا عبارة عن فروع لمصارف أجنبية.
إلى ذلك، يرى الباحث بالشأن الاقتصادي والمالي همام الشماع،أن "الهدف الحكومي للعمل بنظام الدفع الإلكتروني هو محاربة الفساد والحد منه والسيطرة على سعر صرف الدولار، فهذه من الإجراءات والاتفاقات التي جرت بين الجانب العراقي والأمريكي، لكن النجاح بهذا المجال يتطلب وقتا طويلا، خصوصاً وأن هذه التجربة حديثة على المواطن، لذلك تقابل بالرفض حالياً".
ويتطرق الشماع، لفوائد التعامل بنظام الدفع الإلكتروني قائلا بأنه "يمنع الأخطاء في الحسابات النقدية، إضافة إلى الفائدة الاقتصادية العامة من خلال منع كثير من عمليات غسيل الأموال، فالتعامل المالي الداخلي أو الخارجي سيكون مراقبا ومتابعا، وهذا الهدف الأساسي والرئيس للتوجه الحكومي، خصوصاً أنه جاء بعد أزمة ارتفاع الدولار".
ويستطرد "التعامل من خلال نظام الدفع الإلكتروني، كان يجب أن يعمل عليه العراق منذ سنوات طويلة، فهذه الخطوة جاءت متأخرة جداً، خصوصاً أن ما يقارب 15 بالمئة من الشعب هم موظفون ويمكن لهم التعامل من خلال نظام الدفع الإلكتروني، وتعامل هذه النسبة بهذه الطريقة بكل تأكيد سيكون له أثر اقتصادي كبير في السوق المحلية".
يشار إلى أن القطاع المصرفي العراقي مهمل من قبل المواطنين الذين فقدوا الثقة به، وبحسب أرقام البنك الدولي فأن 23 بالمئة فقط من الأسر العراقية لديها حساب في مؤسسة مالية، وهي نسبة من بين الأدنى في العالم العربي، ولاسيما أن أصحاب تلك الحسابات هم من موظفي الدولة الذين توزع رواتبهم على المصارف العامة نهاية كل شهر، لكن هذه الرواتب أيضا لا تبقى طويلا في الحسابات، إذ سرعان ما تتشكل طوابير أمام المصارف من الموظفين الذين يسحبون رواتبهم نقدا ويفضلون إبقاءها في بيوتهم.