بابتسامته المحيّرة، وغموض عينيه البريئتين اللتين تخبآن آلاماً كبيرة، غادر الطفل موسى ذو الأعوام السبعة حياةً مليئة بالقسوة، بينما تركت صورته غضباً وتعاطفاً غير محدود في الشارع العراقي.
وروى أقارب الطفل في أحاديث وبرامج تلفزيونية عن أن موسى أبكى كل من شاهده، بمن فيهم صاحب المغتسل الذي قام بغسل جثته، إضافة إلى آلاف التعليقات والتفاعلات في مواقع التواصل الاجتماعي، التي وضعت اللوم على كل من يعرف موسى وليس على زوجة أبيه التي أنهت حياته فقط، فصورته وهو يرتدي ملابس شتائية في المدرسة على عكس أقرانه، وآثار التعذيب البادية على وجهه ويديه، كانت تخفي قصة تعنيف تمتدّ لفترة طويلة.
وذكرت مصادر أمنية، أن جريمة مروعة وقعت في بغداد، السبت الماضي، أدت إلى مقتل طفل عمره 7 سنوات (موسى ولاء)، بعد تعرضه لتعذيب قاس من قبل زوجة أبيه، شمل استعمال الكهرباء، ومن ثم السكين والملح والخنق، إلى أن فارق الحياة في منطقة الخطيب، التابعة لمدينة الحرية شمالي العاصمة بغداد.
هكذا انتهت قصة موسى ملقىً على أرضية المنزل وآثار التعذيب الدامية تشم جسده الغض، غير أن الكثير من قصص العنف العائلي ضد الأطفال لم تكتب النهاية بعد، فمثل هذه الحالات إذا لم تنته إلى الموت أو ترتفع كمحتوى رائج ستبقى قصص "إخوة موسى"، طيّ الكتمان.
وتؤكد إسراء جعفر، وهي ناشطة ومحامية متخصصة بشؤون الأسرة، إن "هذه الجريمة البشعة يجب أن تكون دافعا لسن تشريعات تحمي الطفولة، فعلى الرغم من قراءة قانون حماية الطفل في مجلس النواب إلا أن فترة طويلة مضت منذ العام الماضي وما زال القانون عالقاً".
وتضيف جعفر، أن "الطفل موسى هو صورة تعكس معاناة الكثير من الأطفال الذين يتعرضون لشتى أنواع التعنيف في الغرف المظلمة وتبقى هذه الحالات مكتومة، فالمحاكم تحمل الكثير من المآسي والقصص من هذا النوع، هذا إذا وصلت هذه الحالات إلى المحاكم".
وتروي أن "هناك قصصا مأساوية كثيرة، منها أن طفلا توفي على إثر تعذيب من أمه وليس من زوجة أبيه، ففي إحدى القضايا توصلت التحقيقات بعد ورود التقرير الطبي لجثة أحد الأطفال أنه توفي نتيجة تعذيب وليس التعرض إلى حادث كما ادعت والدته، ثم توصلت المحكمة إلى إدانة الأم بالقتل وأحالتها إلى محكمة الجنايات".
وأنهى مجلس النواب، في تشرين الثاني نوفمبر العالم الماضي، القراءة الأولى لمشروع قانون حماية الطفل، وسط اعتراضات من بعض الكتل السياسية على ما ورد فيه من بنود، إذ تضمن مشروع القانون بعض البنود الخلافية، منها وضع آليات تتيح للطفل تقديم شكوى ضد ذويه، وتخويل وزير العمل والشؤون الاجتماعية اختيار عائلة بديلة لأي طفل تعرض للانتهاك أو فقد أحد والديه، فضلا عن تحميله الموظف بالخدمة العامة، مسؤولية عدم الإبلاغ عن تعرض الطفل للأذى، لكن القانون بسبب الخلاف على بنود طوي إلى هذه اللحظة.
وخلال الأعوام القليلة الماضية، شهد العراق الكثير من حالات قتل الأطفال على يد ذويهم، وكانت هناك جرائم قد صورت ورصدت بالكاميرات، ما حولها لقضية رأي عام، فضلا عن انتشار عشرات مقاطع الفيديو لتعنيف الآباء لأطفالهم، بل وتعذيبهم وترك آثار على أجسادهم، وفي كل هذه الحالات اتخذت الأجهزة القضائية والأمنية الإجراءات اللازمة بحق مرتكبيها.
ومن الأمثلة ما جرى قبل عامين، حيث أقدم أب في محافظة ميسان على إعدام أولاده الثلاثة شنقا حتى الموت، بسبب خلافات عائلية مع زوجته، وهذه الجريمة جاءت عقب جريمة رمي أم لأطفالها من على جسر الأئمة شمالي العاصمة بغداد.
من جانبه، يشير الخبير القانوني حيدر الشمري، إلى أن "العراق يفتقر لقانون خاص يحمي الطفولة، وهو ما زال بانتظار القانون العالق في مجلس النواب، وفي هذه الحال فإنه يعتمد على النصوص الواردة في قانون العقوبات العراقي النافذ".
ويتابع الشمري أن "قانون العقوبات جاء شاملا للجرائم التي تقع على الأشخاص سواء وقعت على الأطفال أو البالغين، أما مسألة الإبلاغ عن الجرائم فإنها تتبع نوع الجريمة، فمثلا إذا كانت الجريمة هي الإيذاء فلا تحرك إلا من قبل المتضرر منها أو من ينوب عنه قانونا وبالتالي لا مجال لتقديم الإخبار فيها من قبل شخص غريب أو مخبر".
ويواصل: "أما جرائم الحق العام مثلا القتل أو الضرب المفضي إلى الموت وغيرها فإن بالإمكان تحريكها من قبل أي مخبر علم بوقوع الجريمة والمحكمة تستكمل إجراءاتها بناءً على ذلك الإخبار".
وفيما إذا كان وجود الطفل مع أحد أوليائه يشكل خطرا على حياة الأول، يؤكد أن "قانون رعاية الأحداث النافذ منح المحكمة بناء على طلب أحد أقارب الصغير أو الحدث أو الادعاء العام أن تقرر سلب الولاية عن الصغير أو الحدث في حالة إذا حكم على الولي بجريمة الاعتداء على الشخص الصغير أو الحدث بالجرح أو الضرب المبرح أو بالإيذاء العمد، بالإضافة إلى حالات أخرى رسمها القانون".
وعن مصير الطفل في حالة سلبه عن ذويه، يوضح أن "القانون نفسه قرر تسليم الصغير أو الحدث إلى ولي آخر وفي حالة عدم وجوده إلى قريب له، أو إيداعه في إحدى دور الدولة، أو أية دار اجتماعية معدة لهذا الغرض".
وكان العراق من أوائل الدول العربية التي وقعت على اتفاقية حقوق الطفل والتي أقرت عام 1989 واعترف ببنودها وأصبح عضوا فاعلا فيها، لكن مع تواتر الحكومات العراقية قبل وبعد عام 2003 لم تشرع الدولة العراقية قانونا وطنيا لحماية حقوق الطفل يتواءم مع أحكام الاتفاقية الدولية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الدستور العراقي تضمن عددا من الأحكام التي تؤكد على كفالة الدولة لحقوق الطفل والمرأة والأسرة.
بدوره، يتحدث الباحث الاجتماعي محمد باقر ناصر، عن تعدّد دوافع العنف الموجه ضد الأطفال، منه ما هو نتاجات ثقافية اجتماعية، وأخرى نفسية، ففي السياق الأول تفرض الثقافة العراقية سلطة اجتماعية مبنية على أساس العمر والقرابة، فالآباء عادة ما يمنحهم المجتمع سلطة مطلقة على الأبناء، كما يمنح الكبار سلطة على الصغار تقل وتزداد تبعا للنسب والقرابة الدموية، وفقا لهذا الفهم يصبح العنف مبررا لعدم ارتكاب الأطفال والصغار أخطاء تعرض الكبار لكلف اجتماعية، وتجاوز القيم والأعراف".
ويضيف ناصر أن "كل ذلك تغذيه عسكرة المجتمع المستمرة منذ أكثر من 70 عاما، إذ نشأ الفرد العراقي إبان النظام السابق مع قوانين تفرض عليه الانصياع لمن يعلوه بالرتبة، عدا ذلك فإن ارتدادات العنف ستكون وخيمة، وبذلك فقد خرج التجنيد الإلزامي أفرادا مؤهلين لممارسة العنف، تبعت ذلك مرحلة النظام الحالي، التي ألغت التجنيد الإلزامي، لكنها خصصت أغلب الوظائف الحكومية للسلك العسكري، واليوم تكاد لا تخلو أسرة عراقية من منتسب عسكري، يمزج بين العرف والقوانين العسكرية".
ويكمل: "تبعاً لصلاحية الكبار في تأديب الصغار تبرز في كثير من الأحيان نتاجات نفسية تأخذ أشكالا متعددة، منها تعنيف زوجة الأب لأبنائه، أو تعنيف الآباء والأمهات لأبنائهم، أو تعنيف الشقيق الأكبر لأشقائه الصغار، والضحية الأكبر هو الطفل، الذي لم يجد في العراق من يحميه من حالات العنف الأسري والمجتمعي".
ويفيد الباحث الاجتماعي، بأن "السلطة التشريعية لم تتحرك بشكل جاد لحماية الأطفال من التعنيف، ومن الاستغلال في التسول أو العمل الشاق، إذ لم تمرر قوانين حماية الطفل أو الأسرة؛ لاعتقاد بعض النواب أنها قوانين تخالف الأعراف والعادات والتقاليد، وهذا دليل على أن ثقافة الإنسان العراقي توفر غطاء عرفيا لممارسة العنف تجاه الأطفال، ينتهي كل ذلك بحالات قتل أو التسبب بعاهات مستديمة".
وكشفت تقارير سابقة أن نحو 90 بالمئة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عام و14 عاماً يتعرّضون بشكل أو بآخر للعنف بأساليب مختلفة.
وعام 2019، سجلت 1606 دعاوى عنف ضد الأطفال بحسب بيانات مجلس القضاء الأعلى. أما عام 2021، فشهد 1141 دعوى عنف أسري ضد الأطفال، بينما سجلت خلال النصف الأول من العام الحالي 500 دعوى.