أكثر من 200 موقع أثري في كربلاء ما زالت بانتظار التفاتة من الحكومة أو البعثات التنقيبية الأجنبية لإزاحة غبار الزمن عنها، ومنحها الفرصة لكي تسرد تاريخها الموغل في القدم، ومن بينها أقدم كنيسة في الشرق الأوسط والمرشحة بقوة لتكون مقصداً سياحياً عالمياً، إلا أن الإهمال الذي تقول المحافظة بأنه "متعمد" من قبل وزارة الثقافة قد يزيد من اندثار هذه الآثار، فيما يؤكد مختصون أن تلك المواقع في حال الاهتمام بها ستشكل مورداً اقتصادياً كبيراً لرفد موازنة الدولة.
ويقول المنقب الآثاري، زاهد التميمي، خلال حديث لـه، إن "في محافظة كربلاء مواقع تراثية لا يزيد عمرها عن 250 عاماً، وهي خان العطيشي، وخان النخيلة، وقصر مصطفى خان، والقنطرة البيضاء، لكن هناك مواقع أثرية يزيد عمرها عن ذلك وهي حصن الاخيضر، ومنارة موجدة، وكهوف الطار، وقصر شمعون، وقصر البرذويل، وكنيسة القُصَير التي تعتبر من المواقع الفريدة والأقدم والأهم على مستوى الشرق الأوسط وعمرها يصل إلى 1550 عاماً، وما زالت أطلالها شاخصة".
ويضيف التميمي، أن "محيط موقع الكنيسة (40 كم غربي مركز محافظة كربلاء)، يصل إلى 3 كيلو متر مربع، لكن ما تم التنقيب فيه منها هو الجزء المركزي فقط، وهي مشيدة على نظام البازاليك، وتوجد خارج سورها كنيسة أخرى للجنائز، والصور الجوية بينت أن هناك مستوطن كبير في هذا الموقع، وفي حال اكتمال أعمال التنقيب ستكون معلماً مهماً كما هو الحال في حصن الأخيضر (35 كم غربي مركز مدينة كربلاء)".
ويؤكد المنقب الآثاري "وجود مواقع أثرية في كربلاء ما زالت تلولاً غير منقبة يتجاوز عددها الـ200 موقع، منتشرة في مناطق متفرقة من مركز المدينة والأقضية والنواحي، وهي مثبتة في خرائط الآثار، وهذا العدد قابل للزيادة، وأغلبها مستوطنات قديمة، اندثرت نتيجة تقادم الزمن والظروف البيئية، وأصبحت مرتفعات وتلال".
اطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعياطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعي
ويردف التميمي، أن "نحو عشرة مواقع تم تنقيبها خلال السنوات الأخيرة، وتبين أنها مستوطنات تعود إلى بداية العهد الساساني وعمرها لا يقل عن 1500 عام، وعُثر فيها على لُقى عديدة، وما زال العمل بحقل الآثار جارٍ على مستوى المحافظة، لكنه بحاجة إلى اهتمام ودعم من الحكومة المحلية، في جانب الحماية من التجاوزات وتعارض بعض المشاريع مع المواقع الأثرية".
ويشير إلى أن "قانون الآثار لا يسمح مطلقاً بالتجاوز على المواقع الأثرية مهما كانت الأسباب، لكنه سمح بتنقيب أي موقع يكون ضمن خطة المشاريع الحكومية أو الإستثمارية، وعلى نفقة الجهة المستفيدة وبمصادقة الوزارة، وتسليمه بعد رفع اللقى منه والتأكد من عدم وجود بناءات وشواخص ثابتة فيه".
وتضم كربلاء المئات من المواقع التراثية والأثرية، التي تعود إلى عصور قديمة وحضارات مختلفة ولأقوام متعددة، سومرية وبابلية وفارسية وإسلامية ومسيحية ويهودية، إلى جانب آثار جيولوجية مثل كهوف الطار التي يقدر عمرها بأربعة آلاف سنة، وتقع على مكان مرتفع عن مستوى سطح الأرض في عمق الصحراء وتضم أكثر من 400 كهف نحتها الإنسان سوكنها ما بين عام 1200 و1300 قبل الميلاد.
اطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعياطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعي
من جانبه، يبين النائب الأول لمحافظ كربلاء، جاسم الفتلاوي، خلال حديث لـه، أن "ملف الآثار وزاري وليس محلي، وهناك تقصير كبير جداً فيه منذ عام 2003 ولغاية الآن، وذلك التقصير قد يكون مقصوداً، فالآثار فقدت أهميتها طالما هي تحت الأرض".
ويشير الفتلاوي، إلى أن "موازنات مالية كبيرة كانت تخصص للوزارة في السنوات السابقة لكنها لم تُستثمر وتعاد إلى خزينة الدولة، في حين أن عمليات التنقيب لا تكلف أموالاً كثيرة، وبالإمكان تنفيذها، وإظهار آثارنا إلى العالم والإستفادة منها سياحياً".
اطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعياطلال كنيسة القصير- تصوير ذياب الخزاعي
ويؤكد على "وجود الكثير من المواقع والتلال في كربلاء وهي مثبتة على أنها أثرية، والحديث عنها مستمر، والجهات المختصة تمنع الوصول إليها وإنجاز أي مشروع خدمي عليها، لكن ربما تكون وهمية إذا ما تم تنقيبها".
يشار إلى أن محافظة كربلاء تحتضن إلى جانب المواقع التراثية والأثرية، مراقد مقدسة لدى المسلمين، من أبرزها مرقديّ الإمامين الحسين والعباس اللذان يؤمهمها المسلمون الشيعة من مختلف دول العالم في شهريّ محرم وصَفَر وفق التقويم الهجري من كل عام ضمن مراسم إحياء معركة الطف التاريخية.
من جهته، يوضح مفتش آثار محافظة كربلاء، أحمد حسن، خلال حديث لـه أن "عدد المواقع الأثرية غير المنقبة المثبتة لدينا في كربلاء لغاية الآن هو 208 مواقع، وعمليات التنقيب التي نجريها تتم بناءً على ما يخصص لنا من أموال، وحالياً تقتصر عمليات التنقيب على المواقع التي لا تتعارض مع المشاريع الخدمية الإستراتيجة، وعلى نفقة الجهات المستفيدة، ولا توجد لدينا أعمال وزارية لعدم وجود التخصيصات المالية، منذ نحو عشرة أعوام".
ويستبعد حسن "إمكانية تحديد ماهية أي موقع أثري بجهود بسيطة وبوقت سريع، وهناك لجان فنية مختصة تعمل على ذلك، وقد يتبين أنه موقع غني، وليس بعيداً أن لا يظهر شيئاً فيه، كما أن عمليات التنقيب تُجرى يدوياً، وتتطلب فترات ليست بالقصيرة لإكمالها، وهذا يسبب تأخر أو منع إنجاز بعض المشاريع التي تكون بالمواقع الأثرية، نتيجة عدم إشعار مفتشية الآثار قبل تحديد مواقع تلك المشاريع والتخطيط لها مسبقاً".
وينوه إلى أن "المواقع الأثرية التي يقصدها السائحون في الوقت الحالي بكربلاء هي فقط حصن الأخيضر، وكنيسة القُصَير، وخان النخيلة، وتلول الطار، حيث يتوافد سائحون عرب وأجانب بأوقات متفاوتة، لكن أعدادهم ليست بالكبيرة، وحتماً أنها ستزيد في حال تم تأهيل تلك المواقع وإعلانها عالمياً".
كهوف الطار - تصوير ذياب الخزاعيكهوف الطار - تصوير ذياب الخزاعي
ويستطرد مفتش آثار كربلاء، بالقول إن "لدينا جهوداً لتسجيل وإعلان مواقع المحافظة الأثرية بمنظمة التراث العالمي (يونسكو)، لكن هناك مؤهلات مفترضة، لم تتمكن الدولة من توفيرها لغاية الآن، حيث أن صيانة وتأهيل المواقع السياحية الشاخصة في كربلاء، يتطلب أموالاً كبيرة، لتكون جاهزة للإستفادة منها سياحياً وإقتصادياً، وليس سهلاً توفر تلك المبالغ وزارياً".
ويكشف حسن، عن أن "المبالغ التي تخصص لصيانة مجمل الآثار بموازنة الوزارة لا تتجاوز الـ150 مليون دينار، في حين إن صيانة حصن الأخيصر لوحده تتطلب أكثر من مليار دينار، وهذا المبلغ لا يتوفر أصلاً بالموازنة المخصصة للآثار".
كهوف الطار - تصوير ذياب الخزاعيكهوف الطار - تصوير ذياب الخزاعي
وينبه إلى أن "صيانة المواقع ينبغي أن تكون بمواصفات خاصة جداً، للحفاظ على أثريتها، وتكون معتمدة من قبل المنظمات الدولية، لكن ذلك لا يعيه غير المختصين".
تجدر الإشارة إلى أن المواقع الأثرية التي لم يجري تنقيبها في العراق تتجاوز 12 ألف موقع منتشرة في جميع المحافظات، وعلى الرغم من الموازنات "الانفجارية" طوال السنوات الماضية إلا أن الآثار لم تحظى بالاهتمام الذي يوازي أهميتها من قبل الحومات المتعاقبة.
ووفقاً لتصريحات سابقة لوزارة الثقافة والجهات المعنية، فإن العديد من المواقع الأثرية تتعرض لعمليات الحفر من قبل المتاجرين بالقطع الأثرية، وكذلك أعمال تخريب من قبل مواطنين يجهلون أهمية هذه المواقع.
بدوره يقول المختص بالسياحة الدولية في جامعة كربلاء، راضي حمد جاسم، خلال حديث لـه، إن "الاهتمام الحكومي بالآثار في الوقت الحالي ليس بالمستوى المطلوب، كون الدولة خارجة من مطبات كثيرة، لكن من المرجح أن ينصب اهتمامها على الآثار خلال السنوات المقبلة، لكن من المهم راعية السياحة الآثارية في كربلاء لتكون منفذاً آخراً إلى جانب السياحة الدينية التي تتميز بها المحافظة".
ويردف جاسم، أن "القطاع السياحي مربح ومهم في تعضيد الإيرادات الحكومية العامة، وهناك جهود مركزية لتنويع الإيرادات ولدينا مواقع أثرية كثيرة ومهمة في العراق عموماً وكربلاء بشكل خاص، وبعضها لا توجد في أي دولة من دول العالم، وإذا ما تم الاهتمام بها في جانب التنقيب والصيانة وتطوير بناها التحتية، ستكون منفذاً اقتصادياً رائعاً يخدم الموازنة العامة للبلد".
وهو ما يتفق معه المختص بالتاريخ والآثار في جامعة كربلاء، فواز الحسناوي، خلال حديث لـه مبيناً أن "المواقع الأثرية المؤشرة في عموم العراق هي أكثر 12 ألف موقع، والمكتشف منها يصل إلى 10% فقط، ومنها آثار فريدة على مستوى العالم ولا يوجد شبيه لها".
ويشدد الحسناوي، على أنه "من المفترض أن تكون هذه المواقع محط أنظار واهتمام، وتوفر لها البنى التحتية والخدمات ويُعلن عنها لتكون مقصداً للسائحين سواء من داخل العراق أو خارجه".
ويتابع، أن "محافظة كربلاء تضم الكثير من المواقع الأثرية التاريخية والدينية، بعضها مكتشفة وأخرى ما زالت غير منقبة، لكنها مؤشرة وفق المصادر والباحثين"، منتقداً "عدم اهتمام الجهات الحكومية المحلية والمركزية بآثار كربلاء، كما أن إهمال الآثار العراقية أدى إلى تلاشي العديد منها".
ويؤكد الحسناوي على أن "دولاً كثيرة تعتمد بشكل أساس في إيراداتها المالية على السياحة، ولو تم الاهتمام بالآثار العراقية لوفرت كثيراً للبلد وتكون محط أنظار السائحين من خارج العراق، إضافة إلى المنظمات الدولية المختصة بالآثار".
يشار إلى أن عمليات التنقيب عن الآثار العراقية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر وتحديداً في العام 1845 في مدينة نمرود الأثرية (القرن الثالث عشر قبل الميلاد) على بعد 34 كلم جنوب مدينة الموصل، وتعود إلى الحضارة الآشورية، لتنطلق بعدها عمليات التنقيب في مختلف المحافظات من قبل بعثات ألمانية وفرنسية وإنكليزية وأمريكية ويابانية ودولاً أخرى.