في ناحية أبي غرق، (10 كلم غربي محافظة بابل)، يقف حسين صاحب (39 عاما) أمام 80 قبضة يد لاستخراج خاتم مخبأ في إحداها، إذ يحاول بفراسة استثنائية، أن يقرأ الوجوه ذات الملامح المغلقة مرارا وتكرارا، قبل أن يبدأ بانتزاع الخاتم بشيء يشبه السحر.
صاحب، الذي يُسمى في لعبة المحيبس بـ”النازول”، أو “الطالوب” أي طالب المحبس (الخاتم)، يمتلك استراتيجية خاصة في اللعب، وهي أنه لا يقوم بفك الأيدي وإبعاد اللاعبين واحدا بعد آخر، بل يركز على من يشك في حمله الخاتم ليصرخ بوجهه “بس أنت باللعب”، وبهذه الطريقة يقوم بتسليمه الخاتم مباشرة، أو قد ينبري لاعب آخر (إذا أخطأ صاحب الاختيار) ليصرخ به: تِرجَع، أي عُدْ: لم تنجح.
يمثل صاحب فريق شقق الجامعة في البطولة الرمضانية المقامة في ناحية أبي غرق، ويقول، الذي حضر البطولة، إن لديه طريقته الخاصة في معرفة حامل المحبس، “فليس الارتباك هو الدليل الوحيد، بعض اللاعبين لا يظهر على ملامحهم شيء، انظر أحيانا إلى البلعوم عندما يحاول اللاعب بلع ريقه أكثر من مرة، أو إلى الشريان تحت الأذن الذي يبدأ بالنبض، وأقوم بإثارتهم بالكلام عن أنني أعرف مكان الخاتم”.
وتعد لعبة “المحيبس” عادة رمضانية قديمة لدى العراقيين، وأصبحت علامة فارقة من معالم شهر رمضان، إذ تجمع بين المتعة والإثارة، كما أنها تجمع شرائح المجتمع المختلفة، وتقوي أواصر النسيج الاجتماعي بين المحافظات على اختلاف مذاهبها وأديانها.
من جانبه، يذكر سلام عباس، منظم البطولة، خلال حديث لـه أن “20 فريقا شارك في البطولة التي تقام بنظام التسقيط الفردي في المرحلة الأولى، ويتكون الفريق من 40 لاعبا”.
ويؤدي عباس، دور الحكم في المباريات، مشيرا إلى أن “الموضوع لا يقبل الغش إذ نقوم بتصوير جميع اللاعبين قبل أن تتم تخبئة المحبس كي لا يزج بلاعب جديد من خارج اللعبة، والخاتم المستخدم هو خاتم واحد خاص بالبطولة لا يوجد له شبيه، ومن يقع عليه الاختيار لحمل المحبس توضع في جيبه هويتي الشخصية، وعليه أن يبرزها مع إبرازه الخاتم إذا أخطأ الخصم في كشفه”، في خطوة تقطع الطريق أمام إدخال أشخاص من خارج اللعبة.
وإلى جانب التحكيم والتنظيم، يؤدي عباس، دور المبيتچي، إذ يؤكد أن “هناك طرقا أيضا لتخبئة المحبس، فهناك لاعبون يستطيعون حمل المحبس أقوم باختيارهم مسبقا، كما أن هناك لاعبين يتميزون بالارتباك، وهؤلاء أضع في أيديهم خواتم مزيفة وأقوم بسحبها قبل أن يسدل ستار التبييت، لجعلهم مرتبكين أكثر من أجل إيهام الخصم”.
إضافة إلى ذلك، يتحدث عباس: “أقوم بمراقبة النازول في ما إذا كان يفضل أخذ المحبس من الكف اليمين أو اليسار، وأقوم بتبييت المحبس عكس الاتجاه”، لافتا إلى أن “وضع المحبس في اليد اليسار أفضل من وضعه في اليمين لأنها اليسار هي جهة القلب، ولا يظهر عليها علامة ارتجاف”، كما يعتقد.
وتقوم هذه اللعبة على وجود فريقين، (بأي عدد ممكن)، حيث ينتظم اللاعبون في مجموعتين تمثلان غالبا، حيا سكنيا، أو منطقة، أو محافظة، وعادة ما يكون بينهما تحد ومنافسة شديدة، أو رغبة شديدة بالفوز، للصعود إلى المرحلة الأخرى، في حال تنظيم دوري، كما هو حال كرة القدم.
بعد ذلك، يجلس اللاعبون في صفين متقابلين، ويقوم رئيس أحد الفريقين بإخفاء “المحبس” في يد لاعب من فريقه، بعيدا عن أعين الصف الآخر، ثم يسعى قائد الفريق الخصم، أو أحد لاعبيه، للتعرف على اليد التي تخفي المحبس من بين كل الأكف المسدودة، وإذا نجح في المهمة يبدأ التصفيق والتهليل، وتُحتسب نقطة لفريقه.
وعن جذور هذه اللعبة، يروي المؤرخ محمد رحيم، خلال حديث لـه أن “الخلفاء العباسيين كانوا يعقدون مجالس للسمر مع الندمان والقادة والشعراء بعد العشاء، وتقول إحدى الروايات إن أحد الخلفاء فقد خاتم الخلافة، وكان قد أخذه أحد الجالسين للمزاح، فقام الآخرون من أجل إعانته بغلق أيديهم ليجري استخراج الخاتم، وكانت تلك الأمسية رمضانية”.
ويضيف رحيم، أن “اللعبة تطورت بعد هذه الحادثة لاسيما في رمضان، حتى صارت الناس تعتمدها ليس في رمضان فقط، لكن تبقى أجواؤها رمضانية بامتياز”.
وعن طريقة اللعب، يذكر المؤرخ، أن “الفريقين يتفقان على العدد، ويشترطان لبداية اللعب أن يشترى المحبس مقابل نقاط للفريق المنافس، ثم يقوم رئيس الفريق بإخفاء المحبس في يد أحد اللاعبين، وكانت الأيدي توضع إلى الخلف ليتم إخفاء المحبس، ثم تطور الأمر بوضع ستار قماشي لتحجب عملية إخفاء الخاتم عن الفريق الخصم، ثم يبدأ النازول، أو –ما يسميه رحيم- الفاكود أو الطاير يبدأ بالبحث عن الخاتم بطريقته الخاصة”.
يعتمد الفاكود، بحسب رحيم، على “الارتباك على وجه حامل المحبس وأحيانا شكل الكف إذا كانت متضخمة، لكن من وجهة نظر شخصية أرى أن الفاكود يعتمد على قدرة من الحدس تسمى Telepathy أي قراءة الأفكار وهي قدرة باراسايكولوجية، ينظر من خلالها الفاكود بعين اللاعب الآخر ويسترق أفكاره، وهي حاسة للتنبؤ أو ما يسمى الحاسة السادسة، لذلك ترى لاعب الخصم يحني رأسه ولا ينظر بعين الفاكود حتى لا تسرق فكرة وجود المحبس لديه، إذ يقوم بتضييع وجهه، والفاكود يطلب منه باستمرار أن ينظر إليه”.
ويعتقد المؤرخ، أن “هذه اللعبة التي تمارس بين المحلات والأحياء في رمضان تعمق العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الناس، إذ كانت تلعب في المقاهي ثم أصبحت في النوادي والقاعات، ومنذ الستينيات بدأ التلفزيون ببث تلك المباريات التي تصحبها عادة فرقة المربعات البغدادية، وعادة ما ترتبط اللعبة برهن دفع أجور أواني الحلويات والمعجنات التي يتمتع بها الجالسون”.
وخلال العقود الماضية، أصبح لهذه اللعبة رجالها المشهورون بها، ممن عُرفوا بالفراسة، والنظرة الحادة، والقدرة على التقاط الخاتم، من بين مئات الأيدي، حيث يحاول أصحابها التمويه، والتلاعب، واستخدام الحيل النفسية، وإظهار التوتر، لإيهام الخصم بامتلاكهم الخاتم.