في فجر الـ30 من آب أغسطس 2022، صمتت البنادق داخل المنطقة الخضراء، وتوقف أزيز الرصاص بين أنصار التيار الصدري، وقوى الإطار التنسيقي، لتغلق أبواب الصراع الذي شل البلد لنحو عام كامل، الأمر الذي مهد إلى مرحلة تشكيل الحكومة الحالية، ليتلاشى معها الحديث حول "الدولة العميقة"، بعد أن كتب التيار نهاية وجوده بالعملية السياسية في هذه المرحلة الراهنة، وأصبح الحكم علنا وسرا بيد قوى الإطار التنسيقي.
يتفق المراقبون للشأن السياسي، بأن ما جرى لا يعد النهاية لـ"الدولة العميقة"، بل هي توارت عن الأنظار فقط، وسبب هذا يعود إلى ضمور "الصوت المعارض" أو عدم وجود مبرر لظهورها بقوة حاليا، وخاصة بعد إبتعاد التيار الصدري، لكنهم يختلفون حول اعتبار حكومة السوداني، وجها حقيقيّا لها، فمنهم من يجد الحكومة الحالية بعيدة عنها و"متمردة" عليها، ومنهم من لمّح إلى أن الحكم ما زال "عميقاً".
ويقول رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، إن "عدم تداول مصطلح الدولة العميقة هذه الأيام، يعود إلى غياب الإعلام الذي يسلط الضوء على هذه المفاهيم، خصوصا وأن هناك اتهامات تطول مدونين وناشطين بأنهم باتوا أقرب إلى الأحزاب التي تشكل الدولة العميقة التي تمسك زمام الحكم من خلال المحاصصة وتقاسم المناصب، وبالتالي فإن غياب صوت المعارضة دفع إلى ابتعاد الأضواء الإعلامية عن هذا المصطلح".
ويعتقد الشمري، أن "الدولة العميقة لم تنقطع منذ تأسيسها قبل ما يقارب العقد وما تزال مستمرة حتى الآن، بدليل أن أي محاولة لعودة الدولة العليا إلى هيبتها والتخلص من المحاصصة تصطدم بجدار الدولة العميقة وسلطة الأحزاب المشكلة لها".
ويرى رئيس مركز التفكير السياسي، أن "جزءا من المشكلين للمعادلة السياسية في العراق هم أصحاب الدولة العميقة وهذه الدولة لا ترتبط بحكومة بقدر ارتباطها بالأحزاب والزعامات التي شكلتها"، لافتا إلى أن "سياساتها الخارجية ترتبط بمصالحها التي ترسمها أفكار الزعامات، لذلك فإنك تلاحظ أن التوجهات الحكومية والتحركات لتطوير العلاقات الخارجية سيعترضها نشاط من الدولة العميقة لإحباطها".
لمحة
يشار إلى أن أول حكومة منتخبة في العراق، كانت في العام 2006، وشكلت برئاسة زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، والذي حصل على ولاية ثانية في انتخابات العام 2010، بعد أزمة سياسية كبيرة أخرت تشكيل الحكومة لتسعة أشهر في حينها.
امتدت سيطرة المالكي، على الدولة لغاية العام 2014، حيث أجريت الانتخابات وحصل فيها المالكي على أعلى نسبة من الأصوات، وفق نظام سانت ليغو، وفي حينها حاول الحصول على ولاية حكومية ثالثة، لكن خلافات كبيرة حالت دون تحقيق ذلك، بمقابل الدفع بحيدر العبادي لرئاسة الحكومة، لكونه من حزب الدعوة أيضا، في خطوة تضمن بقاء منصب رئيس الحكومة بيد الحزب نظرا للتوافق بين الكتل الشيعية.
وكانت لحظة إعلان تنحي المالكي عن السلطة ودعمه لترشيح العبادي لرئاسة للحكومة، في 14 آب أغسطس 2014، قاسية على العاصمة بغداد، حيث شهدت شللا تاما اقترب من حظر التجوال، ورافقها انتشار أمني مكثف، تحسبا لحدوث خرق أمني، نظرا لتمسك المالكي آنذاك بالمنصب.
كان هذا على السطح، في العمق بدأت خيوط الدولة العميقة تتضح وتنشط تحركاتها لتحاول تغيير المسارات لصالحها مذاك.
المرحلة التي تلت العبادي، وفي العام 2018، تسنم عادل عبدالمهدي، رئاسة الحكومة، وفي فترته حدثت تظاهرات تشرين الأول أكتوبر 2019، ليقدم استقالته بعد أكثر من عام بقليل، وفي تلك اللحظة جرى تشكيل الإطار التنسيقي، الذي يضم كافة الكتل الشيعية، بما فيها التيار الصدري في البداية، قبل أن ينسحب لاحقا بعد فترة وجيزة.
أخذ الإطار التنسيقي على عاتقه اختيار رئيس الحكومة، وكان أول نتاج له هو مصطفى الكاظمي، الذي تسلم الرئاسة بعد التظاهرات، التي شهدت مقتل نحو 800 شخص وإصابة 25 ألفا آخرين.
دويلات عميقة
بدوره، يرى المحلل السياسي ماهر جودة، أن "الدول المتقدمة هي دول مؤسسات، لا تدار من قبل أشخاص، لكن هذا الوضع مختلف بالنسبة لنا، فهناك قيادات أخرى تتحرك في الظل، كتل وأنصار ولوبيات، إنها الدولة العميقة".
ويعرّف جودة، الدولة العميقة بأن "يتفرّد شخص من خلال تولّيه الحكم لفترة طويلة وبعد امتلاكه خط التعيينات والمناصب، ليقوم بخلق أدوات يتوزعون كأعضاء مجلس نواب ومحافظين ومسؤولين محليين، لتتم زراعتهم في المؤسسات من أجل الهيمنة وتحقيق أهداف تخدم هذا الحزب لا المصالح العليا للدولة".
ويضيف، أن "تجربة الدولة العميقة الشيعية التي شهدتها العملية السياسية، ألهمت السياسيين من جميع المكونات على استنساخها، إذ بدأت تتكوّن الآن دويلات عميقة أخرى كردية أو من المكون السني لتصنع لوبيات مختلفة وتستغل المناصب والصلاحيات تحت عنوان مظلومية المكون واسترجاع الحقوق لتحقيق مكاسب أكبر خصوصا مع اقتراب انتخابات مجلس المحافظات".
وردا على سؤال يتعلق بمدى تمثيل هذه الحكومة للدولة العميقة، يعتقد جودة أن "حكومة السوداني خارج إطار الدولة العميقة، بل أن رئيس الوزراء أعلن تمرده عليها وأصبح على خلاف معها، فالرجل اكتسب خبرات عديدة من خلال تدرجه في المناصب ابتداءً بقائممقام ومحافظ إلى الوصول نحو سدة الحكم وهذه الخبرة جعلت منه شخصية إيجابية تبحث عن الاستقلالية في القرار السياسي".
غير أنه يشير إلى أن "مصطلح الدولة العميقة وإن بدا أقل تداولا فهذا لا يعني أنها انتهت، نعم ضعفت لكنها لم تنته، وإذا ما وصلت فعلياً إلى سدة الحكم ربما ستتفكك بانتهاء وجود المبرر، ولكن ستدخلنا في مشاكل لا يحمد عقباها".
وفي الانتخابات الأخيرة التي جرت في تشرين الأول أكتوبر 2021، رشح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني، بعد أزمة سياسية تجاوزت العام، بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، حيث أصرّ الأخير على تشكيل الحكومة لكونه الفائز الأكبر بعدد المقاعد النيابية، ودخل بصراع وتظاهرات مع الإطار، بلغت مرحلة الاقتتال المسلح داخل المنطقة الخضراء.
الصدر، كان أيضا من أشد المعارضين لتولي السوداني المنصب، لكونه مقربا من ائتلاف دولة القانون، وكان عضوا فيه قبل أن يستقيل منه في العام 2019.
ومنذ تكليفه بتشكيل الحكومة، توطدت علاقته مع واشنطن، وذلك عبر لقاءات كثيرة أجرتها السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي، قبل وبعد تكليفه، بالإضافة إلى اجتماعاتها مع بعض الوزراء في حكومته بشكل مستمر أيضا، وقد عبرت السفيرة عن الدعم الكبير لواشنطن لحكومة السوداني.
من جانبه، يؤكد المحلل السياسي نزار حيدر أن "الدولة العميقة في العراق تتميز بصفات، أولها أنها ضد الدولة ومؤسساتها فهي تعرقل بناءها لأن قوة الدولة تأتي على حسابها، ولذلك فإن الدولة العميقة لا تريد للعراق أن يتمتع بدولة قوية بمؤسساتها لأن ذلك سيضعف من شوكتها فالعلاقة بينهما عكسية".
ويضيف حيدر، أن "الصفة الأخرى للدولة العميقة هي أن قرارها مرتبط بقوى خارجية، ولذلك فهي ردة فعل داخلية لصالح أجندات من وصفتهم المرجعية الدينية العليا بالغرباء، ومن المعلوم فإن أية قوة خارجية لا تحبذ أن يقف العراق كدولة على قدميه على حساب مصالحها الوطنية والإقليمية والدولية"، مشيرا إلى أن "الدولة العميقة محمية بسلاح الفصائل المسلحة، ولهذا السبب فإن خطرها مضاعف على الدولة ومؤسساتها".
ويعتقد أن "الحديث خفت الآن عن الدولة العميقة لأنها هي التي تحكم وتتحكم بمفردها ولوحدها، بعدما كانت تراشقاتها تتصاعد عندما تختلف مع الآخرين، إذ كان تداولها في الإعلام في أوجه أثناء الصراع السياسي بين التيار والإطار من جهة والصراع المسلح بين الفصائل والسرايا من جهة أخرى، ولكن بعد انسحاب التيار من العملية السياسية واختفاء المواجهات المسلحة بين الأطراف المسلحة فمن الطبيعي أن يختفي المصطلح لتعمل وتنشط تحت الماء"، بحسب وصفه.
ويشدد المحلل السياسي المقيم في واشنطن، على أن "حكومة السوداني إذا أرادت أن تنجح في بناء دولة بمؤسسات حقيقية وقوية، عليها أن تفكك الفصائل المسلحة وتبدأ العمل فوراً بتنفيذ قانون هيئة الحشد الشعبي فهو كفيل بحصر السلاح بيد الدولة وإعادة الاحترام لسيادتها، ويبدو أن رئيس الوزراء يعمل على تحقيق ذلك ولكن بهدوء حتى لا يصطدم بالدولة العميقة وسلاحها، فالمهمة خطيرة جداً ومعقدة ولذلك يشكك كثيرون في قدرته ونجاحه في تحقيق ذلك".
ويخلص إلى أن "الدولة العميقة المتكئة على سلاح الفصائل هي التي تحمي الفساد والفشل وهي التي تعمل على إفشال أي مشروع حقيقي تسعى الحكومة إلى تبنيه وعلى مختلف الأصعدة، وهي، كذلك، تتحكم باتجاهات السياسة الخارجية للدولة، فكيف يريد السوداني أن ينفذ برنامجه الحكومي وهو محكوم بالدولة العميقة ومحاصر بسلاحها؟".
يذكر أن العديد من القوى المنضوية في الإطار التنسيقي، تمتلك أجنحة مسلحة، وكانت قبل دخولها العملية السياسية، عبارة عن فصائل مسلحة فقط، وأبقت على هذه الفصائل رغم حصولها على مقاعد نيابية ووزارات.
ومنذ تولي السوداني رئاسة الحكومة، تراجعت عمليات استهداف المصالح الأمريكية في العراق، التي كانت سابقا شبه يومية، وتنفذ عبر الطائرات المسيرة أو صواريخ الكاتيوشا، وهذا التراجع أو إنعدامها حاليا، عزاه متخصصون سابقا بالأمن والسياسة، إلى محاولة الإطار التنسيقي عدم تعكير صفو العلاقة مع واشنطن، لكونه شكل الحكومة بمفرده ومحسوبة عليه، ولا يريد أن يضعها بحرج بسبب هذه الاستهدافات.