05 Jun
05Jun

كانت تلك هي اللحظة الأولى التي أشعر فيها بالراحة والسكينة بعد رحلة بحث وعذاب دامت 12 عاما” يقول أسعد ياسين التميمي من أهالي البصرة قضاء ابي الخصيب.
“أخيرا دفنت إخوتي الستة، وبت أعرف ماذا حل بهم.. وصار لهم قبر أزوره.. الآن فقط يمكنني ان أحزن كما ينبغي للحزن أن يكون”.
كان أسعد في الثالثة عشرة من عمره عندما داهمت قوة من الجيش العراقي بيتهم نهاية شهر آذار مارس عام 1991، ليعتقلوا جميع الرجال والفتيان الذين كانوا يتواجدون في المنزل حينها ولم يبقوا غير النساء ووالده المسن.
“اعتقلوني وإخوتي الستة وخالي دفعة واحدة.. كانوا يعرفون مسبقا أننا موجودون في المنزل، فلم يكتفوا بالتفتيش العادي، ونبشوا كل ركن حتى اعتقلوا الجميع،” يقول التميمي.
“لم تكن هناك مذكرات اعتقال أو قرارات قضائية، لم يكن لآحد أصلا أن يجرؤ على السؤال عن مذكرات اعتقال”.
شكلت “الانتفاضة الشعبانية” أو “انتفاضة آذار” عام 1991 والتي انطلقت شرارتها من محافظة البصرة، وامتدت لعدد من المحافظات الجنوبية والشمالية، أكبر تحد أمني داخلي واجهه النظام السابق بقيادة الرئيس المخلوع صدام حسين، لذا فإنه لم يدخر جهدا لاستعادة السيطرة على المحافظات الأربعة عشرة “المنتفضة”، منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في تموز يوليو من العام نفسه، قالت إن السلطات البعثية مارست “أعلى درجات الوحشية” لقمع المنتفضين وضمان إجهاض الانتفاضة بنهاية آذار مارس في العام نفسه.
تقرير المنظمة أكد أن الجيش العراقي وجهاز المخابرات وعناصر أمنية ومسؤولين في حزب البعث الحاكم آنذاك، استخدموا المدفعية الثقيلة وإطلاق النار العشوائي والطائرات المروحية لاستعادة السيطرة على المدن المنتفضة، مشيرا إلى أن استعادة الجيش السيطرة على المدن اعقبها حملات اعتقال واسعة النطاق واعدامات جماعية ميدانية دون محاكمات أو أوامر قضائية طالت المشتبه باشتراكهم في الانتفاضة بما فيهم نساء وأطفال.
التميمي وإخوته الستة وخاله نقلوا إلى مبنى مدرسة قريب كان الجيش يستخدمه كمركز اعتقال مؤقت. التحقيقات التي بدأها الضباط المسؤولون مع المعتقلين تلك الليلة أسفرت عن إطلاق سراح التميمي صباح اليوم التالي، ونقل إخوته وخاله إلى مبنى الفرقة الحزبية في المنطقة.
“إخوتي وخالي أجمعوا على أنني لم أشترك معهم في الانتفاضة، وأنني كنت مع والدي معظم الوقت طيلة الأسابيع الثلاثة التي سيطر خلالها المنتفضون على المدينة”، يقول التميمي.
عاد التميمي الى عائلته في الصباح، وكان ذاك اخر عهده بإخوته الستة وخاله.
قضى التميمي ووالده السنوات التالية كزائرين شبه دائمين لمقر الفرقة الحزبية في المنطقة ومديرية الأمن والسجون ومراكز الاحتجاز في البصرة، مرة كباحثين عن أحبتهم الذين لم يسمعا عنهم منذ تلك الليلة ومرات كمشتبه بهما.
بات التميمي المعيل الوحيد لعائلته المكونة من 17 فردا منذ ذلك اليوم نظرا لكبر سن والده، فترك الدراسة وراح يعمل في بيع السكائر والخبز والبقالة.
“لم نملك وقتا للحزن او الآنهيار. تلك كانت رفاهية لم نحظ بها. كان علينا انا ووالدي ووالدتي ان نلملم جراحنا وننهض، فهناك نساء واطفال تحتاج الى طعام وشراب وملبس.
“راحت والدتي واخواتي يخبزن في البيت واقوم انا بتوريد الخبز للمطاعم”
لم تفقد العائلة التي فقدت سبعة من افرادها دفعة واحدة، الآمل في عودتهم، فظل التميمي مواظبا على تعقب اخبار المعتقلين واولئك الذين يطلق سراحهم بين الحين والآخر حتى بعد وفاة والده عام 1998.
“كنت افرح كثيرا عندما اسمع بإطلاق سراح أحدهم فاهرع اليه حاملا معي صور اخوتي لآسآله عله التقى بآحدهم يوما خلال فترة سجنه”.
في تشرين الآول عام 2002، أصدر صدام حسين عفوا عاما عن جميع السجناء والمحكومين بما فيهم المحكومين بالإعدام. احتفل التميمي ووالدته في ذلك اليوم وهرعوا الى مبنى مديرية الأمن في البصرة على أمل أن “يعود الغياب، وينتهي وجع الانتظار”، لكن دون جدوى.
“عدنا بخفي حنين وخيبة امل ومرارة لا زال طعمها في فمي رغم مرور اثنين وعشرين سنة على ذلك اليوم” يقول التميمي.
لم يسمع التميمي مجددا عن إخوته وخاله ومضت أيامه كسابقاتها حتى آيار مايو عام 2003 عندما أخبره أحدهم عن مقبرة جماعية تم العثور عليها في قضاء المحاويل، 80 كلم جنوب بغداد في احد البساتين المملوكة لأحد شيوخ العشائر الموالين للرئيس المخلوع.
“ذهبت فورا ودون تردد، وجدت آلاف الناس هناك جاءوا من جميع المحافظات بحثا عن احبتهم”
مقبرة المحاويل، شمال بابل، والتي عثر عليها الأهالي في أيار عام 2003، هي احدى اكبر المقابر الجماعية المكتشفة في العراق حتى الآن. المفوضية العليا لحقوق الآنسان تقول ان موقع المحاويل احتوى على ثلاثة مقابر جماعية وانه على الرغم من فتح الموقع بشكل عشوائي الا ان 3600 رفات تم انتشالها منه.
تفيد التحقيقات الجنائية للجيش الأمريكي الذي كان حاكما للمنطقة عندما تم اكتشاف المقبرة، ان الرفات تعود لمدنيين اعتقلوا من قبل القوات العراقية في اذار 1991 على خلفية الاشتباه باشتراكهم في الانتفاضة الشعبانية وتم اعدامهم ودفنهم هناك.
المفوضية العليا لحقوق الآنسان تقول ان موقع المحاويل، هو واحد من 95 موقعا يضم مقابر جماعية تم العثورعليها بعد سقوط النظام البعثي في 2003 وتسجيلها.
مدير عام دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية التابعة لمؤسسة الشهداء، ضياء كريم الساعدي قال ان بعض المواقع تضم عدة مقابر جماعية وان الـ79 موقعا التي تم فتحها حتى الآن كشفت عن وجود 158 مقبرة جماعية تضم الالاف من الضحايا.
“عثرنا حتى الآن على 158 مقبرة جماعية في المواقع المفتوحة، جميعها كانت تحوي رفات ضحايا تم اعدام معظمهم بإطلاقة واحدة في الراس”
يؤكد الساعدي ان التحدي الآكبر الذي تواجه السلطات العراقية المعنية حاليا هو تحديد هوية الضحايا وانهاء معاناة ذويهم.
مسؤولون عراقيون وحقوقيون يقولون، ان فتح المقابر الجماعية وانتشال الرفات وتحديد هوية الضحايا، سيكشف لا محالة عن مصير عشرات الالاف من المفقودين والمغيبين بما فيهم المغيبين قسريا منذ عقود.
العثور علي مقبرة المحاويل وفتحها وانتشال رفاتها، انهى رحلة بحث استمرت لآثني عشرة سنة استنزفت طاقة واموال التميمي وعائلته.
عثر التميمي على رفات اثنين من اخوته بالإضافة الى خاله في اليوم الآول الذي تلى وصوله الى موقع مقبرة المحاويل فيما عثر على رفات البقية في اليوم التالي.
“كانوا هياكل عظمية تضمها نفس الملابس التي كانوا يرتدونها عندما تركتهم اخر مرة. عثرت في جيوبهم على هوياتهم وكل ما كانوا يحملونه حينها”. يقول التميمي.
“لم اعد للبيت ولم أخبر احدا. اخذت الرفات واستخرجت لها شهادات وفاة وتوجهت مباشرة الى مقبرة وادي السلام في النجف لدفنها.
“كنت منهارا كذاك الذي وصل الى خط النهاية بعد ركضه لسنوات طويلة، لكنني كنت سعيدا.
“اخيرا عثرت على رفات اخوتي وخالي ودفنتهم وصار لهم قبورا نزورها ونجاهر بحزن اخفيناه طويلا،”
فتح المقابر الجماعية ورفع رفاتها وتحديد هوية ضحاياها، كفيل بالكشف عن مصير الآلاف من المغيبين قسريا في العراق خلال الخمسة عقود الماضية، مسؤولين وحقوقيين عراقيين قالوا.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة