ظهرت أربيل أكثر جدية في إنهاء فصول المعادلة السياسية القائمة على الصراع مع بغداد منذ سنوات، في تحول لافت تمثل برغبتها في دعم وحدة البلاد وتقوية عاصمتها الاتحادية، والسعي نحو المشاركة الفاعلة في الحكومة الاتحادية وكافة الفعاليات الوطنية الأخرى، ما أرجعه محللون سياسيون، إلى المتغيرات الإقليمية والداخلية، فضلا عن بحث قادة الإقليم عن حلول لمشاكله التي يعاني منها، وأبرزها الاقتصادية، في ظل انقسام حاد بين إدارتي أربيل والسليمانية، ما أدى لإدراك أربيل بأن عمقها الستراتيجي هو بغداد، وأن إضعاف إحديهما مقابل تقوية الأخرى لن يفضي لنتائج إيجابية.
ويقول المحلل السياسي من إقليم كردستان شاهو القرة داغي، خلال حديث له إن "الاتجاه الجديد لقيادة إقليم كردستان بصورة عامة، هو اعتبار بغداد عمقا استراتيجيا للإقليم، وهذا الأمر يأتي لأسباب إقليمية وداخلية عدة، منها المشاكل التي مرت بالعلاقة بين بغداد وأربيل خلال الفترة الماضية، والتي أضرت بوضع الإقليم، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية".
ويوضح القرة داغي، أن "هذه الأوضاع الصعبة التي عاناها إقليم كردستان، جعلته يتجه لإقامة علاقات سياسية قوية في بغداد، وهذا الأمر شجع السياسيين الكرد للانفتاح أكثر على العاصمة بغداد، فقوة الأخيرة الآن أصبحت من قوة الإقليم من وجهة نظرهم، خلافا للعقيدة السياسية التي كانت سائدة في السابق، سواء في بغداد أو الإقليم، والتي تقوم على اعتبار قوة العاصمة الاتحادية سببا لضعف الإقليم وبالعكس، والتي تبين خطأها لقادة الإقليم، لذا فإن الرؤية الجديدة في التعامل بين بغداد وأربيل تغيرت".
ويضيف أن "تقوية العلاقة بين بغداد وأربيل سيحل المشاكل المالية والنفطية بين البلدين، كذلك ستسهم هذه العلاقة بحل مشاكل مناطق المتنازع عليها والفراغات الأمنية التي تستغل من قبل تنظيم داعش الإرهابي".
ويخلص المحلل السياسي، إلى أن "التوجه الجديد للإقليم يتطلب وجود نية حقيقية من بغداد لهذا الأمر، والأيام المقبلة سوف تثبت نية بغداد من توجه الإقليم الجديد، والذي يسعى ويهدف لحل كافة المشاكل العالقة منذ سنين". يشار إلى أن رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، زار بغداد مؤخرا، وأجرى لقاءات سياسية عديدة، كما شارك بالحفل التأبيني لذكرى رحيل السيد محمد باقر الحكيم، وأكد خلاله دعم رئيس مجلس الوزراء في تنفيذ البرنامج الحكومي، وأن الوقت بات مناسبا لحل جميع المشاكل وإعادة دور العراق في المنطقة، وأن بغداد ستكون أقوى إذا ما حصل العراقيون على جميع حقوقهم، والعمل بروح الشراكة والتعددية والقومية والمذهبية علامة قوة العراق.
وتأتي هذه الزيارة، بعد أن اشترك بارزاني بجميع المحافل الرسمية في بطولة خليجي 25، التي أقيمت في البصرة، وحضر إلى جانب رئيس الحكومة محمد شياع السوداني في حفلي الافتتاح والنهائي. كما شارك بارزاني، بحفل استقبال وفد المنتخب الوطني من قبل السوداني، وإقامة مأدبة غداء لهم، وجلس بجوار السوداني خلال حفل التكريم، وهذا فضلا عن توجيه دعوة للمنتخب إلى تكريمه في أربيل أيضا.
وكان رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، التقى اليوم الأحد، كلاً من السفير الفرنسي إيريك شوفالييه والسفير الألماني مارتن ييغر، وخلال اللقاء تمت مناقشة الأوضاع السياسية في المنطقة وآخر مستجدات العملية السياسية العراقية والعلاقات بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، حيث أعرب السفراء عن ارتياحهم للأجواء الإيجابية بين الإقليم وبغداد وعدوها فرصة من أجل تثبيت دعائم الإستقرار في العلاقات بين أربيل وبغداد، حسب البيان الرسمي.
ومنذ تولي السوداني رئاسة الحكومة، زار بارزاني ومسؤولون آخرون في الإقليم، بغداد مرات عديدة، ومنها أكثر من زيارة خلال أسبوع واحد، وذلك في وقت تعرض فيه الإقليم إلى قصف إيراني كثيف وأدى إلى ضحايا عدة، بمقابل استمرار القصف التركي.
إلى ذلك، يبين رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، خلال حديث له أن "رغبة إقليم كردستان في قوة بغداد، جاء نتيجة صراع الأحزاب التقليدية داخل الإقليم (الحزب الديمقراطي، الاتحاد الوطني)، خصوصاً أن هذا الصراع أضعف الإقليم بشكل كامل".
ويتابع الشمري، أن "هذا التوجّه من قبل حكومة إقليم كردستان، هو محاولة للحصول على استحقاقات الإقليم بهدف خفض الأزمة الاقتصادية التي يعيشها مواطنو الإقليم، كما أنه جاء بعد إدراك الإقليم أن المحيط الإقليمي والدولي، وخصوصاً إيران وتركيا لن يسمحا لكردستان بأن تكون متقدمة على بغداد الاتحادية".
ويضيف أن "الهجمات التي حدثت مؤخرا من قبل إيران أقنعت حكومة إقليم كردستان والقيادات الكردية بإعطاء صورة واضحة لأن بغداد هي البوابة للإقليم، ما دفع الإقليم لدعوات تقوية بغداد من أجل إيقاف عمليات القصف الإيرانية الصاروخية".
ويختم رئيس مركز التفكير السياسي، حديثه بأن "حاجة إقليم كردستان لبغداد، هو ما دفع لتقوية العاصمة العراقية، خصوصاً مع وجود اتفاقات سياسية قيد التنفيذ بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وهذا أيضا من سبب دعوة تقوية بغداد من قبل أربيل بهذا التوقيت".
وكانت مصادر مطلعة كشفت الشهر الماضي، أن السوداني أوقف كل تلك التهديدات للشركات النفطية الأجنبية العاملة في الإقليم، والضغط عليها للالتزام بقرار المحكمة الاتحادية القاضي بمنع الإقليم من تصدير النفط، وبحسب الحزب الديمقراطي الكردستاني في حينها، فإنه أكد أن هذا الأمر ورد في الورقة السياسية التي وقعت بين القوى السياسية لتشكيل الحكومة الحالية.
جدير بالذكر، أنه ورد في المحور التنفيذي بالمنهاج الوزاري للسوداني، وفي الفقرة 15 من المحور، التأكيد على تطبيق المادة 140 وتفعيل اللجنة الخاصة بها، خلال شهر واحد من تشكيل الحكومة، كما تضمنت الفقرات التي سبقتها، التأكيد على إعادة انتشار قوات البيشمركة وعودة الأحزاب الكردية إلى محافظات كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين، وإخلاء مقراتها التي شغلت من جهات أخرى، كما ورد في المنهاج. وتعد المادة 140 من أبرز المواد الخلافية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، حيث تطالب الأخيرة دائما بتطبيق هذه المادة الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، بين المركز والإقليم.
تتركز هذه المادة، حول محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين ونينوى، وهي المحافظات التي تعرضت للتغيير الديموغرافي ولسياسة التعريب على يد النظام السابق. من جانبه، يجد المحلل السياسي نزار حيدر، خلال حديث له أن "شيئا لم يتغير حتى الآن في العلاقة بين بغداد وأربيل، خاصة مع تصاعد الخلافات بين أربيل والسليمانية والتي تسببت بانقسام الوفود الكردية المفاوضة في بغداد إلى قسمين، وما حصل هو تجميد التصعيد لدرجة كبيرة وترحيل العقدة الأكثر إثارة في ملف الخلافات، واقصد به ملف النفط والغاز، عندما وافق الإطار على تضمين البرنامج الحكومي شرط أربيل بتجميد قرار المحكمة الاتحادية، بشأن النفط والغاز في الإقليم قبل أن تدعم أربيل الحكومة الجديدة".
ويضيف حيدر، أن "الكل يعرف بأن حكومة السوداني تشكلت بعد انسداد سياسي طال عاماً كاملاً، وكادت الأمور أن تنهار لولا التوافق الإقليمي الدولي الذي كانت نتيجته انسحاب أكبر الفائزين التيار الصدري لصالح الخاسرين -الإطار-، وانقلاب الصورة بهذا الشكل الدراماتيكي، ولأول مرة في تاريخ الديمقراطيات حول العالم، كان له ثمن باهظ ينتظر أن يدفعه الإطار قبل أن يشكل حكومته الجديدة، فكانت القوى الكردية والسنية بالمرصاد للإطار لفرض إملاءاتهم قبل أن يتوافقوا على تمرير الحكومة تحت قبة البرلمان".
ويتابع "هذه الإملاءات والشروط تأتي إلى جانب إملاءات أمريكية يقف على رأسها التزام الحكومة الجديدة بكل ما منصوص عليه في الاتفاقيات والبروتوكولات، خاصة العسكرية والأمنية الموقعة بين بغداد وواشنطن منذ عهد حكومة المالكي الثانية، وتحديداً في 22 أيلول سبتمبر 2014 وإلى آخر ما تم الاتفاق عليه، والتي يطلق عليها تسمية مخرجات الحوار الاستراتيجي في العام 2021".
ويواصل المحلل السياسي المقيم في واشنطن، أن "الشيء الذي ميّز اشتراطات أربيل على بغداد هذه المرة هو إصرار الإقليم على تضمينها في البرنامج الحكومي الذي صوت عليه مجلس النواب، لضمان قانونية الاشتراطات وغلق الباب بوجه أية محاولات محتملة للالتفاف عليها على اعتبار أنها ستكون ضمن الوثيقة الحكومية واجبة الالتزام والتنفيذ، ويأتي هذا الشرط بعد أن كانت أربيل تتوافق مع مَن يريد تشكيل الحكومة وتوقع معه تحت الطاولة ليتم الانقلاب على ما تتوافق عليه، وبالتالي تعود المشاكل إلى نقطة الصفر من دون أن يكون لأربيل أي توثيق قانوني يمكنها من إلزام بغداد بالتنفيذ".
ويخلص المحلل السياسي، إلى أن "الإطار قبل بهذا الشرط لأنه كان مضغوطاً بعد انسحاب التيار، ولم يكن بإمكانه أن يتفاوض على شيء لا يريده مثلا، وكان قبل ذلك قد تراجع عن كل اتهاماته للإقليم وما كان يقوله من أن أربيل قاعدة أمامية للموساد الإسرائيلي وكون الإقليم يشكل خطراً على المركز بسبب تحالفاته مع القوى الكبرى وما الى ذلك، وفي خطابه الجديد يعتبر الإطار أن أربيل شريك وحليف استراتيجي ولولاها لما تجاوزت العملية السياسية أزمتها الخطيرة وانتهت الأمور لصالحه".
ومنذ سنوات لم تحسم النقاط الخلافية بين بغداد وأربيل، وقد جرى تبادل مئات الوفود بين الطرفين لغرض حلها من دون جدوى، وبقيت معلقة وترحل من حكومة لأخرى، وأبرزها قضية المناطق المتنازع عليها وتطبيق المادة 140، وقضية حصة الإقليم من الموازنة، التي تثار سنويا مع تقديم كل موازنة وهو ما يسبب بتأخير إقرارها عادة، إلى جانب قضية تصدير الإقليم النفط ودفعه مستحقات بغداد، وهذا تنص عليه أغلب الموازنات لكن لم يطبق، وفي موازنة 2021 تم الاتفاق على ترحيل تصفية الحسابات بين بغداد وأربيل إلى أجل غير مسمى.