نشرت مجلة (فورين بوليسي) تحليلًا؛ لـ”ديريك غروسمان”، محلل دفاعي كبير في مؤسسة (راند)، وأستاذ مساعد في جامعة “جنوب كاليفورنيا”، حول طموحات “الهند” للصعود إلى مرتبة القوة العظمى في عالم من المُرجَّح أن يكون متعدد الأقطاب، مشيرًا إلى الاستفادة التي تُحققها “الهند” من الحرب الروسية في “أوكرانيا” والتي جعلت جميع الأطراف تتودد إليها وتبتعد عن توجيه النقد لها، وذلك نظرًا إلى اعتمادها على الطاقة والعتاد العسكري الروسيين.
ويستهل الكاتب تحليله بالقول: في كل أزمة، دائمًا ما يستفيد شخص ما. وفي حالة الغزو الروسي لـ”أوكرانيا”، هذا الشخص هو رئيس الوزراء الهندي؛ “ناريندرا مودي”. ومن خلال رفض إدانة “موسكو” والانضمام إلى العقوبات التي يقودها الغرب، تمكن “مودي” من رفع مكانة “الهند” العالمية. وبات كل من القوى الكبرى الأخرى – “الولايات المتحدة وروسيا والصين” – يُغازل “الهند” بشدة لحرمان خصومها من ميزة إستراتيجية.
ويستمتع “مودي” وحكومته القومية الهندوسية بتسليط الضوء عليهما؛ وسوف يسعيان بالتأكيد للحفاظ على استمرار ذلك الزخم. وهدفهما المحتمل هو بناء دور قوة عظمى مستقل لـ”الهند”، وتسريع الانتقال إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، وفي النهاية ترسيخ مكانة “الهند” الجديدة بالحصول على مقعد دائم في “مجلس الأمن”؛ التابع لـ”الأمم المتحدة”.
“الهند” و”أميركا”.. شراكة إستراتيجية..
ولا شيء من هذا ينفي حقيقة أن “الولايات المتحدة” أصبحت أهم شريك إستراتيجي لـ”الهند”. وأحرز البلدان تقدمًا هائلًا في السنوات الأخيرة. ومنذ عام 2018، عقدت “نيودلهي” و”واشنطن” مؤتمرات قمة سنوية ووقَّعتا عديدًا من الاتفاقيات الأمنية الرائدة. وكلا البلدين جزء من “الحوار الأمني الرباعي”؛ (المعروف باسم الرباعية)، إلى جانب: “أستراليا واليابان”. وفي “قمة الرباعية”؛ في “طوكيو”، الشهر الماضي، التقى “مودي”؛ بالرئيس الأميركي؛ “جو بايدن”، شخصيًّا للمرة الثانية، في تكملة لمناقشات افتراضية جارية بين البلدين.
وانضمت “نيودلهي” أيضًا إلى إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء” من أجل الرخاء، والذي أُزيح عنه الستار مؤخرًا في “واشنطن”، والذي يهدف إلى تكثيف العلاقات الاقتصادية في المنطقة دون إبرام معاهدة تجارية رسمية.
وخلال شراكتهما المزدهرة، تعهدت “الهند” و”الولايات المتحدة”، بصفتهما أكبر ديمقراطيتين في العالم، بتوجيه قيمهما المشتركة؛ (ومصالحهما الإستراتيجية في احتواء الصين)، لدعم النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد.
ولكن عندما غزَت “روسيا”؛ “أوكرانيا”، قررت “الهند” إتباع سياسة مفرطة في الواقعية وحماية المصالح الهندية قبل كل شيء – ليس أقلها اعتمادها العميق على “روسيا” للحصول على المعدات العسكرية. وبدلًا من توجيه سهام الإدانة إلى دولة ذات سيادة بسبب غزوها وسعيها لتدمير دولة أخرى – وهو انتهاك لا جدال فيه للنظام القائم على القواعد – اعترضت “الهند”.
وفي البداية، بدت إستراتيجية حكومة “مودي” وكأنها تهدف إلى الإضرار بالشراكة بين “الولايات المتحدة” و”الهند”. وفي آذار/مارس، وصف “بايدن” إلتزام “الهند” بمعاقبة “روسيا”؛ بأنه: “مهتز إلى حدٍ ما”. وفي أوائل نيسان/إبريل، زار نائب مستشار الأمن القومي الأميركي؛ “داليب سينغ”، “نيودلهي”، وحذر من: “عواقب” محتملة للدول التي تُحاول تقويض “العقوبات الأميركية”.
وبحلول منتصف نيسان/إبريل، غيَّرت إدارة “بايدن” نغمتها تغييرًا كبيرًا. والتقى “بايدن” و”مودي” افتراضيًّا خلال إنطلاق ما يُسمى بحوار (2 زائد 2) في “واشنطن”. وبعد الاجتماع، كان من الواضح أن “بايدن” وافق على موقف “مودي”. وأشار البيان الأميركي إلى أن الزعيمين سيواصلان: “مشاوراتهما الوثيقة” بشأن “روسيا”، دون أي مؤشر على استعداد “واشنطن” لاتخاذ أي إجراء ضد “نيودلهي”.
وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن على “الهند” إدانة “روسيا” أو تقديم أي تنازلاتٍ أخرى، مثل تقليص أو إنهاء استيرادها لـ”النفط الروسي” الرخيص.
وستُسهم هذه الاتجاهات في صعود “الهند” إلى مكانة القوة العظمى؛ وتحوُّل النظام العالمي نحو تعددية قطبية أكبر.
رويترز“واشنطن” لن تضغط على “نيودلهي” !
ويوضح الكاتب أن التصريحات اللاحقة من “البيت الأبيض” تُشير بوضوح إلى أن “واشنطن” لن تضغط على “نيودلهي” أكثر من ذلك، ربما خوفًا من تدمير التعاون في مواجهة “الصين” في منطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء”.
وقال وزير الخارجية الأميركية؛ “آنتوني بلينكن”، على سبيل المثال، في نيسان/إبريل، إن: “الهند يجب أن تتخذ قراراتها الخاصة حول كيفية التعامل مع هذا التحدي”. وفي “طوكيو” الشهر الماضي؛ قال “بايدن”: “أنا مُلتزم بجعل شراكة الولايات المتحدة والهند من بين أقرب أنواع الشراكة لدينا على وجه الأرض”، على الرغم من الاختلافات فيما يتعلق بـ”روسيا”. وفي بيانهما المشترك، أدان “بايدن” وحده؛ “روسيا”، ولكن “مودي” لم يفعل ذلك. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي بدا فيها الفارق واضحًا بين مواقف الزعيمين.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، حافظت “الهند” أيضًا على علاقاتها الوثيقة مع “روسيا”؛ من خلال الإمتناع المتكرر عن التصويت في “الأمم المتحدة” عندما قدمت الدول الغربية قرارات ضد “روسيا”. وتتمتع “روسيا” و”الهند” بشراكة طويلة الأمد تعود إلى “الحرب الباردة”، عندما أعتقدت “نيودلهي” أن “واشنطن” تدعم بنشاط عدوها اللدود؛ “باكستان”. ولطالما قدَّرت “الهند” الدعم الروسي، لا سيما في “مجلس الأمن”؛ التابع لـ”الأمم المتحدة”، حيث يُطرح الوضع الإقليمي لـ”غامو وكشمير” باستمرار.
وتتمتع “الهند” أيضًا بتاريخ طويل من الاستفادة من شراكتها مع “روسيا” ضد منافستها الأخرى؛ “الصين”، التي تُعاني معها توترات حدودية مستمرة، وعلى مدى عقود، اشترت “الهند” أسلحة روسية. ووفقًا لأحد التقديرات الحديثة، فإن ما يقرب من: 85% من المعدات العسكرية الهندية؛ روسية المصدر. وابتداء من الشهر الماضي، وردَ أن إدارة “بايدن” كانت تدرس تمويلًا عسكريًّا بقيمة: 500 مليون دولار لـ”الهند” لفَطمِها عن المعدات الروسية الصنع. وتغاضت “واشنطن” أيضًا حتى الآن، عن تطبيق “قانون مواجهة أعداء أميركا من خلال العقوبات”؛ (فارا)، فيما يتعلق بشراء “نيودلهي” لنظام صواريخ “أرض-جو” (إس-400) من “موسكو”، مما يُشير إلى أن “الهند” ببساطة مهمة للغاية لإستراتيجية “الولايات المتحدة”؛ في المحيطين: “الهندي” و”الهاديء”، بحيث يصعب المخاطرة بإغضابها عن طريق فرض عقوبات.
“الهند” تستفيد من الحرب !
وأكد الكاتب أن “الهند” استفادت استفادة أكبر من “النفط والفحم” الروسيين المنخفضي الثمن؛ منذ اندلاع الحرب. وعلى الرغم من أن وزير الشؤون الخارجية الهندي؛ “إس. غايشانكار”، سَخِر في نيسان/إبريل من أن “الهند” ربما تستورد نفطًا روسيًّا خلال شهر أقل مما تستورده “أوروبا” في فترة ما بعد الظهر في يوم واحد، ارتفعت واردات “نيودلهي” النفطية من “روسيا” ارتفاعًا حادًّا بعد فرض عقوبات بقيادة الغرب على “موسكو”.
وينطبق الشيء نفسه على الفحم، حيث تنخفض مخزونات “الهند” على نحو يُنذر بالخطر. ومن المؤكد أن “الهند” مُمتنَّة أن تُتاح لها الطاقة الروسية لدعم تنميتها. والانتقادات الغربية لهذه الواردات، التي تأتي بعد عقود من مخاطبة “الهند” بشأن انبعاثات “الوقود الأحفوري”، قد أزعجت فقط أكبر دولة في عالم ما بعد الاستعمار – دولة لا تزال تحمل حساسياتٍ عميقة عندما يبدو أن الدول الغنية ذات الأغلبية البيضاء تخبرها بالتخلي عن مصالحها الوطنية في أمن الطاقة والتنمية التي تغذيها الطاقة.
ولكي تشكر “موسكو”؛ “نيودلهي”، على دعمها الثابت في حماية “روسيا” في “الأمم المتحدة”، زار وزير الخارجية الروسي؛ “سيرغي لافروف”، “الهند” في نيسان/إبريل. وأثناء وجوده هناك، أشاد بنظام تبادل العُملات بين “الروبية” و”الروبل”، الذي يوفر وسيلة بديلة لإجراء المعاملات مع البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات. وبالإضافة إلى ذلك، قال “لافروف”: “سنكون مستعدين لتوريد أي سلع تُريد الهند شراءها”؛ بحسب مزاعم التقرير.
سكاي نيوزوبالنظر إلى مناقشات “مودي” المستمرة مع الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، منذ الحرب،
أثار “لافروف” إمكانية أن تؤدي “الهند” دور الوسيط في الحرب “الروسية-الأوكرانية”، الأمر الذي من شأنه أن يضع “الهند” في موقع بارز للغاية على الساحة العالمية.
ونظرًا إلى أن موقف “الهند” المحايد يتعارض بوضوح مع سياسة “الولايات المتحدة”، شعرت “بكين” أيضًا بفرصة إستراتيجية لإشراك “نيودلهي” – بهدف أساس هو انتزاعها من أحضان “واشنطن” القوية. وفي آذار/مارس، كان وزير الخارجية الصيني؛ “وانغ يي”، أول مسؤول صيني كبير يزور “الهند” منذ عام 2019، حيث أوضح أن “بكين” تُغازل “نيودلهي”. وقال: “إذا تعاون البلَدَان، فإن العالم بأسره سيهتم لذلك”.
وفي الفترة التي سبقت زيارة “وانغ”، أبدت الصحيفة الناطقة باسم “الحزب الشيوعي الصيني”؛ التي تُصدر باللغة الإنكليزية، (غلوبال تايمز)، أيضًا نبرة تصالحية غير عادية، حيث كتبت: “تشترك الصين والهند في مصالح مشتركة على جبهات عديدة. على سبيل المثال، أشار الغرب مؤخرًا بأصابع الاتهام إلى الهند فيما يتعلق بشراء النفط الروسي بسعر مخفض، لكنه حق مشروع للهند”.
“الهند” لا تُريد التقرب من “الصين” حرصًا على الفوائد من “أميركا”..
واستدرك الكاتب قائلًا: غير أن المسؤولين الهنود لم يكونوا مستعدين للتقرب من “الصين” جزئيًّا بسبب الفوائد التي يتلقونها بوقوفهم على الحياد، وعلى الأخص من “الولايات المتحدة”. وعقب زيارة “وانغ”، تساءل “غايشانكار” خطابيًّا: “هل يُميز الأميركيون ويفرقون بين الهند والصين حول مواقفهما تجاه روسيا وسط أزمة أوكرانيا ؟.. من الواضح أنهم يفعلون ذلك”. وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين “الولايات المتحدة” و”الهند”، يظل الحفاظ على الاستقلال الإستراتيجي لـ”الهند” من خلال سياسة عدم الانحياز هدفًا طويل الأمد لـ”نيودلهي”.
وفي السياق الروسي ومع اشتداد المنافسة بين القوى العظمى، أثبت هذا الموقف أنه مفيد فائدة من نوع خاص إزاء “الصين”. وعلاوةً على ذلك، هناك صراع حدودي طويل الأمد بين “الصين” و”الهند”؛ والذي قالت “نيودلهي”، إنه يجب حله قبل تطبيع العلاقات الثنائية. ولم يُقدِّم “وانغ” أي خدمة لنفسه من خلال التوقف في “باكستان” أولًا والإدلاء بتعليقات مناهضة لـ”الهند” حول وضع “غامو وكشمير”.
وبدلًا من الموافقة على موقف “بكين” المؤيد علنًا لـ”روسيا”، قررت “نيودلهي” المضي قدمًا في طلب صيني مختلف: مشاركة “مودي” المستمرة في منتدى (بريكس)، الذي يجمع “البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا”.
وبعيدًا عن القوى العظمى، فازت “الهند” أساسًا بالجدال مع الدول الرئيسة في “أوروبا” ومنطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء”.
على سبيل المثال؛ زار رئيس الوزراء البريطاني؛ “بوريس جونسون”، “الهند” في نيسان/إبريل، وعلق قائلًا: “العلاقات بين روسيا والهند معروفة تاريخيًّا، و(تصرفات نيودلهي) لن تغير ذلك”. وأظهرت جولة “مودي”؛ التي شملت ثلاث دول، هي “ألمانيا والدنمارك وفرنسا”، الشهر الماضي أن “الهند” لن تُهمَّش بسبب سياستها تجاه “روسيا”.
وعلى العكس من ذلك؛ حظي “مودي” في جميع الدول الثلاث باستقبال حار. وفي حالة “ألمانيا”، لا يزال “مودي” على قائمة الضيوف للانضمام إلى دول “مجموعة السبع”، في وقت لاحق من هذا الشهر في جبال “الألب” البافارية.
وفي منطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء”، قال رئيس الوزراء الياباني؛ “فوميو كيشيدا”، عند سؤاله عن “الهند” في “القمة الرباعية”؛ الشهر الماضي، إن: “لكل دولة تطوراتها التاريخية الخاصة، بالإضافة إلى موقفها الجغرافي. حتى بين الدول ذات التفكير المماثل، قد لا تتفق المواقف اتفاقًا كاملًا. وهذا طبيعي للغاية”. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الأسترالي الجديد؛ “آنتوني ألبانيز”، لم يمضِ على جلوسه في منصبه سوى بضعة أسابيع، فقد التقى مع “مودي” على هامش “القمة الرباعية”، وتفاخر بأن العلاقات الثنائية: “لم تكن أوثق في أي وقت مضى”، على الرغم مما قاله “ألبانيز” إنه جرى تبادل: “وجهات نظر قوية” حول “روسيا” خلال إجراءات الرباعية.
ويختتم الكاتب تحليله قائلًا: لقد أفادت الحرب الروسية في “أوكرانيا”؛ “الهندَ” بلا شك، حيث تتنافس القوى العظمى بقوة أكبر لاستمالة “نيودلهي”، لا سيما “الولايات المتحدة” و”الصين”. وكذلك سَعَت “الهند” لكي تؤدي سياستها تجاه “روسيا” إلى إفساد الشراكات مع الشركاء الرئيسيين في “أوروبا” ومنطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء”. وهذه الاتجاهات، إذا استمرت، ستُسهم في صعود “الهند” إلى مكانة القوة العظمى، وبذلك، ستحول النظام العالمي نحو تعددية قطبية أكبر.
والتصعيد الخطير في الصراع “الروسي-الأوكراني”، الذي قد يُجبر “الهند” في النهاية على اختيار أحد الجانبين بين القوى العظمى، هو الأمر الذي يمكن أن يُعرقل نجاح “نيودلهي”. ويمكن للشركاء الذين تسامحوا حتى الآن مع نهج “الهند” القائم على السياسة الواقعية أن يُصابوا بالإحباط لأن “نيودلهي” ترفض الاستعانة بثقلها بصفتها قوة عظمى صاعدة. ولكن ما لم يحدث هذا أو إلى أن يحدث، تظل “الهند” بقيادة “مودي” مستعدة لمواصلة الاستفادة من هذه الأزمة.