تمثل ذكرى التاسع من نيسان/ابريل من كل عام، فرصة للعراقيين لاستذكار عقدين على الحرب الأميركية على البلاد عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين وبداية إحدى أكثر الحقب السياسية جدلية في تاريخ العراق الحديث.
وعلى رغم من دموية حقبة نظام صدام وإجماع غالبية العراقيين على توصيفها بإحدى “أكثر الحقب وحشية في التاريخ الحديث”، فإن مسار الخيبات الكبرى التي عاشها العراقيون خلال العقدين الماضيين، جعل من تلك الذكرى محط تساؤلات كبرى ومشاعر مختلفة لدى العراقيين.
ويرى مراقبون أن عدم تحقق الوعود ببناء نظام ديمقراطي ودولة فاعلة بعد الحرب الأميركية كان له الأثر الأكبر في تغيير وجهات نظر العراقيين إزاء لحظة أبريل 2003.
لم تعد ليلة احتلال بغداد في التاسع من أبريل عام 2003 مجرد ذكرى لسقوط النظام السابق، بل باتت مناسبة يستذكر فيها العراقيون حصيلة طويلة من الخيبات على جميع الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية.
واعتمدت الدعاية الأميركية في تبرير الحرب على العراق، على سرديتين رئيستين، تتمثل الأولى في التهديدات التي مثلها نظام صدام حسين على أمن المنطقة والأمن والسلم الدوليين من خلال استخدام “ذريعة امتلاك النظام حينها أسلحة دمار شامل”، أما السردية الثانية، فتلخصت في عبارة “صناعة الديمقراطية” التي مثلت المرتكز الرئيس في استقطاب عواطف غالبية العراقيين.
ولعل عدم تمكن واشنطن من إثبات امتلاك النظام آنذاك لأسلحة دمار شامل، هو الذي دفعها نحو التركيز بشكل كبير على مسارات “بناء نظام ديمقراطي” وإعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحروب والحصار الاقتصادي، بحسب مراقبين.
وعلى رغم استقطاب تلك البروباغندا لكثير من العراقيين في حينها، فإنها سرعان ما اصطدمت بعديد من الإشكالات، على رأسها بناء نظام المحاصصة الطائفية وتعزيز الهويات الفرعية وبدء مرحلة من النزاعات المسلحة، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين بعيد سنوات قليلة من الغزو.
وإضافة إلى الإشكالات الأمنية، مثل الفساد وصعود الجماعات المسلحة إلى السلطة وسيطرتها على مفاصل الدولة، وعدم معالجة الإشكالات العميقة التي أحاطت باقتصاد البلاد، فضلاً عن تصاعد معدلات الفقر والبطالة، خيبة أمل إضافية للعراقيين، والتي لطالما واجهها صناع النظام السياسي الحالي بعبارات عدة باتت مثار سخرية العراقيين، أبرزها أن ما جرى يمثل “المخاض الضروري لإنتاج نظام ديمقراطي” أو أن دماء العراقيين “ليست سوى تضحيات موقتة على مذبح الحرية”.
خيبة أمل كبرى
ويبدو أن نسبة المؤيدين للحرب الأميركية في العراق، قد تراجعت إلى حدود كبيرة بعد مرور 20 سنة، حيث أشار استطلاع قامت به مؤسسة “غالوب الدولية” إلى أن نسبة الرضا عن الحرب الأميركية على العراق عام 2003 تضاءلت بشكل لافت بعد مرور عقدين من الزمان، ويوضح الاستطلاع أن عديداً من العراقيين المشاركين في الاستطلاع “يشككون بالدوافع الحقيقية لخوض الحرب”.
ولفت أن 51 في المئة من المشاركين يرون أن “الولايات المتحدة دخلت العراق لسرقة موارده، وهذا الشعور يظهر بشكل خاص في المحافظات الجنوبية الشرقية والأنبار، أي المناطق الغنية بالنفط والغاز، في حين يعتقد 29 في المئة من المستطلعين أن الغزو كان لإطاحة نظام صدام، ولم يؤيد سوى خمسة في المئة فكرة أن الحرب استهدفت نشر الديمقراطية، فيما ستة في المئة يرون أنها حدثت في إطار محاربة الإرهاب”.
ويشير الاستطلاع أيضاً إلى أن “60 في المئة من المستطلعين يرون أن الوضع زاد سوءاً مقارنة بما كان عليه قبل عام 2003”.
ويقول رئيس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “غالوب الدولية” منقذ داغر، إن يوم التاسع من أبريل عام 2003 بات يمثل “ذكرى مؤلمة للعراقيين بشكل عام” كما توضح استطلاعات الرأي، لافتاً إلى أن السبب في كونها تحولت إلى خيبة أمل هو “ما حصل بعدها من فوضى أنتجت عديداً من الإشكالات، ولعل أبرزها تصاعد الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية”.
ويضيف داغر، المشرف على الاستطلاع أنه “على رغم عدم تبلور هوية وطنية جامعة في فترة النظام السابق، فإن ما كان متبقياً منها تفتت بسبب ما جرى من إشكالات بعد الغزو الأميركي”.
ويبدو أن التاسع من أبريل لم يعد مجرد ذكرى لغزو البلاد أو إسقاط النظام السابق، بل بات يمثل “مجموعة من خيبات الأمل للعراقيين الذين كانوا يأملون أن يشكل التغيير فارقاً إيجابياً”، بحسب داغر الذي يلفت إلى أنها باتت تمثل استذكاراً لـ”جلب الطبقة السياسية الحاكمة والنظام الطائفي المحاصصي”.
ويرى أن هذا التاريخ بات يمثل حتى بالنسبة إلى الأميركيين “أكبر عملية فشل وخداع تمت للرأي العام العالمي والأميركي بخصوص أسلحة الدمار الشامل في العراق”. ويختم أنها “ذكرى مخزية تؤكد أن التغيير من الخارج ليس الوسيلة الصحيحة لبناء الديمقراطية”.
حدث غامض
في كل عام، تتزايد حالة الغموض في تفسير مشاعر العراقيين إزاء ذكرى الحرب الأميركية على البلاد. ويرى الباحث والأكاديمي، فارس حرام أن الحدث الذي كان ينظر له عام 2003 على أنه تغيير لنظام صدام حسين بات من الصعب تفسيره الآن في ظل المتغيرات الكبيرة التي أحاطت بالمشهد العراقي خلال العقدين الأخيرين.
ويضيف حرام في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن “الغموض في فهم لحظة التاسع من أبريل بات السائد على نظرة العراقيين لما حصل”، مبيناً أن ما كان ينظر له على أنه “لحظة الخلاص من الاستبداد” لم يعد كذلك وبات من الصعب تفسيره. ولعل ما جرى من إشكالات وصراعات دموية وانهيار في اقتصاد البلاد ووصول زعماء الطوائف إلى السلطة ومحاولات القوى الحاكمة لتقويض الديمقراطية، كما يعبر حرام شكل “نقطة التحول الرئيسة في وجهة نظر العراقيين بشكل عام لذكرى سقوط النظام”.
وباتت عديد من التساؤلات تحيط بالعراقيين خلال سنوات ما بعد الغزو الأميركي للبلاد، بحسب حرام، ولعل أبرزها هو “ما إذا كان التغيير على مستوى النظام السياسي ومؤسسات الدولة والنسيج الاجتماعي مخطط له للوصول إلى لحظة الفوضى الحالية، أم أن وصول قوى طائفية ودينية مسلحة إلى السلطة حرف الخطة التي كانت مرسومة للبلاد”.
ويعتقد حرام أن انتهاء الفوضى التي تعيشها البلاد باتجاه معين إما من خلال بناء دولة ديمقراطية أو استمرار الحالة الاستبدادية هو الذي “سيعطي التفسير الأوضح في النهاية للحظة الغزو الأميركي للبلاد”، مبيناً أن دولة ما بعد 2003 “لا تزال مشروعاً غير مكتمل لا يمكن توصيفه بشكل دقيق”.
مفارقتان رئيستان
مثل غياب الهوية الوطنية أحد أبرز إشكالات ما بعد الحرب الأميركية على البلاد، نتيجة الانكفاء على الهويات الفرعية لدى الفاعلين السياسيين، لكن هذا وغيره من الظواهر والأزمات يعكس، بحسب حرام، وجود مفارقتين رئيستين تسببتا في العمق بتأزيم حالة الدولة وعرقلة الديمقراطية وغياب الهوية الوطنية.
تتلخص المفارقة الأولى بـ”كون النظرية السياسية التي قامت عليها دولة ما بعد 2003 تمثل نظاماً ديمقراطياً من حيث الشكل، لكنها تتناقض مع المحتوى القانوني للدولة، الذي لا يزال يمثل امتداداً للمرحلة الاستبدادية”.
ويتابع أن، “تلك المفارقة الكبيرة كانت حاضرة في عديد من محطات النظام الحالي، خصوصاً في حالات القمع ومحاولات الكتل السياسية إصدار قوانين جديدة تحد من حرية التعبير بالاستناد إلى قوانين تعود إلى حقبة نظام صدام حسين”.
أما المفارقة الثانية، فتتمثل في أن “الديمقراطية لا تدخل ضمن أدبيات الأحزاب التي مسكت أو تشاركت السلطة منذ عام 2003، فهي إما أحزاب عائلية أو شخصية، ولا فرق في هذا الأمر بين الدينية منها والعلمانية، وبين الشيعية منها والسنية والكردية”، مردفاً أنه لا يمكن انتظار تشكيل نظام ديمقراطي من هذه النوعية من الأحزاب، لا سيما أنها تعتمد على النزعات الدينية والطائفية والعرقية في صناعة نفوذها السياسي”.
ويختم فارس حرام أنه “كان الأجدى بصانعي القرار في واشنطن لو كانوا جادين في صناعة دولة ديمقراطية في العراق بعد إطاحة صدام “معالجة هاتين المفارقتين قبل تسليم السلطة إلى العراقيين”.
جذور قائمة للاستبداد
في المقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية، هيثم الهيتي، أن النسبة الغالبة من العراقيين كانت تريد تغيير النظام عام 2003، إلا أن المفاهيم تغيرت بعد عقدين من الزمن وباتت الغالبية رافضة لهذا الغزو. ويضيف أن السبب الرئيس في تبدل وجهات نظر العراقيين إزاء الحرب هو “كون الغاية التي أعلنت عنها واشنطن في التحول نحو الديمقراطية لم تتحقق ولا تزال جذور الاستبداد قائمة في النظام السياسي”.
ولعل الإشكال الآخر الذي أسهم بشكل فاعل في تغيير وجهات نظر العراقيين إزاء الحرب على البلاد هو “تفكيك الدولة وتدمير مؤسساتها” فضلاً عن “تسييس الهويات الطائفية وتمكين الجماعات الراديكالية من السيطرة على الدولة”، كما يشير الهيتي، الذي يتابع أن كل تلك العوامل جعلت هذا التاريخ “فرصة لاستذكار الخسائر”.
ويختم أن، “استبعاد أبناء الداخل العراقي من المشهد السياسي والاعتماد على معارضي النظام السابق المقيمين في الخارج أدى في النتيجة إلى خيبة أمل أكبر لدى العراقيين”.
ولا يرى معظم العراقيين اليوم من الحرب قبل عقدين من الزمن سوى آثار ستبقى شاهدة على واحدة من أكبر الإشكالات التي واجهتها البلاد في تأريخها، مع حصيلة كبيرة من الخيبات وحصاد أكبر من الدماء.