ضحايا الجفاف والفقر.. حرمان الفتيات من التعليم أثر آخر للتغير المناخي بالديوانية
ضحايا الجفاف والفقر.. حرمان الفتيات من التعليم أثر آخر للتغير المناخي بالديوانية
02 Jun
02Jun
كان حلمي أن أصبح معلمة!” هذا ما تقوله مروة (13سنة) من محافظة الديوانية جنوبي العراق وهي تساعد شقيقها في حمل كيس مليء بالعلب المعدنية إلى عربة دفع خشبية حيث ينتظرهما شقيقهما الآخر، بينما ينشغل ثلاثة من أشقائها الآخرين في منطقة مجاورة بجولة البحث اليومية عن أي شيء صالح للبيع يمكن أن يعثروا عليه قرب منزل أو في مكب للنفايات. بجسدها الهزيل وثيابها الرمادية الرثة ووجه لفحته الشمس ويدان مليئتين بالندوب، تجوب مروة وأخوتها كل يوم لساعات شوارع العاصمة بغداد، منذ أن تركت أسرتها المكونة من 12 فرداً قريتها وأرضها الزراعية بسبب قلة الأمطار، ونزحت الى بغداد أملا في تحسين أوضاعها بعد أن واجهت صعوبات في تأمين قوتها اليومي. تقول مروة:”كان لدينا دجاج، وأبي وأشقائي الأكبر مني كانوا يعملون في زراعة أرضنا، لكنهم منذ سنوات توقفوا عن ذلك، لأن الزرع لم يكن يثمر نتيجة قلة الامطار وجفاف البئر التي كانوا يعتمدون على مياهها في السقي والشرب”. في الصف الثالث الابتدائي وبعد وفاة أمها، أجبرت مروة على تلك دراستها “صرت أعمل مع شقيقاتي في رعاية الدجاج وجلب الماء إلى البيت من بئر بعيدة، قبل أن نترك كل شيء وننتقل إلى بغداد” تقول ذلك بصوت منخفض وكأنها خجلة. تتذكر الفتاة بفرح أيام دراستها وبعض صديقاتها، وتفكر بإستمرار بالعودة ذات يوم، رغم معرفتها أن ظروف عائلتها لا تسمح بذلك، لذا تقول “هو مجرد حلم!”. وفقًا لمنظمة اليونيسف المعنية بحقوق الأطفال، فإن أكثر من 1.2 مليون طفل في العراق لا يتلقون تعليماً رسمياً، نصفهم من الفتيات. ويعود ذلك بشكل كبير إلى الفقر، والنزاعات، وتغيرات المناخ، التي تعد من الأسباب التي أدت خلال العقدين الأخيرين إلى نزوح جماعي من بعض الأرياف إلى المدن. بحسب تقرير لليونيسف حمل عنوان “التعليم في العراق: تحديات وآفاق فأن تغيرات المناخ، وعلى رأسها الجفاف “ادت إلى تفاقم الفقر وانعدام الأمن الغذائي، مما أجبر العائلات على إخراج أطفالهم من المدرسة ودفعهم للعمل”. ووفقاً لخبراء متخصصين فأن ذلك قد أثر وبنحو كبير على فرص الكثير من الأطفال بتلقي التعليم الأساسي، فغالبية أبناء النازحين لم يلتحقوا مجدداً بالدراسة حتى مع عودة بعضهم، وبدلاً من ذلك انخرطوا بسوق العمل لإعالة أسرهم أو لأن التقاليد والأعراف لاتسمح بذلك فيما يتعلق بالفتيات. كما يحتلّ العراق المرتبة 61 من أصل 163 بلداً في مؤشر اليونيسف عن مخاطر المناخ على الأطفال. وتم تصنيفه حسب تقرير الأمم المتحدة للبيئة العالمية رقم (GEO-6) 6باعتباره خامس دولة معرضة لنقص المياه والغذاء وارتفاع درجات الحرارة. يرجع هذا الترتيب المرتفع إلى ما يحمله تغير المناخ من مخاطر شديدة على الأطفال العراقيين. التغيير المناخي هو السبب أبو عبدالله (40 سنة) من محافظة الديوانية، والدٌ لخمسة أطفال وهو المعيل الوحيد للعائلة، يقول بنبرة ألم:”العام الماضي كان بمثابة منعطف حاد في حياتنا مع تدهور وضعنا المعاشي، اضطررت لإتخاذ قرار صعب بترك بناتي الثلاث التعليم، إحداهن كانت في المرحلة المتوسطة واثنتان في الإبتدائية، بينما استمر ولداي الآخران في دراستهما الإبتدائية”. اضطر ابو عبدالله لاتخاذ ذلك القرار نتيجة فقدانهم للجزء الأكبر من مصدر دخلهم الأساسي المتمثل في الزراعة “جفاف الأنهار المغذية لأرضي التي كنت ازرع فيها رز العنبر، أفقدني معظم دخلي، ولم يعد بمقدوري تغطية مصاريف تعليم جميع أطفالي وتأمين مستلزمات دراستهم”. ويتابع: “كنت أحلم أن يتعلم أطفالي ويعيشوا حياة أفضل من التي عشتها، لكن الأوضاع لا تساعد الآن، بناتي يعملن في زراعة مساحة صغيرة من الأرض بالخضار سريعة الحصاد، ويذهبن مع والدتهن كل يوم لبيعها في سوق المدينة، لنسد رمقنا ونعيش يومنا”. وكانت وزارة الزراعة العراقية قد اتخذت قراراً بمنع زراعة الأرز في غالبية مناطق البلاد في موسمي 2022 و2023 على التوالي بسبب أزمة المياه التي نتجت عن قلة الإمدادات المائية الواردة إلى نهري دجلة والفرات، ومع تراجع سقوط الأمطار بسبب التغير المناخي والجفاف الذي تمر به المنطقة، والذي ادى الى فقدان الآلاف لأعمالهم المرتبطة بهذا النوع من الزراعة. قصة أبو عبدالله، تتكرر مع مئات الفلاحين الآخرين في المناطق الريفية جنوبي وغربي العراق، إذ تدفعهم الظروف المناخية بما حملته من جفاف ومن ثم تخلي عن الزراعة، إلى اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بعضها بمستقبل أبنائهم كإيقافهم عن مواصلة التعليم أو الهجرة إلى المدن والانخراط في أعمال أخرى. وبحسب تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، فأن مناطق جنوب العراق تشهد تحديات متزايدة تؤثر على حياة السكان، ولا سيما الفتيات وتعليمهن، بفعل التغيرات المناخية الحاصلة، والتي تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وشح المياه، مما “يضع ضغوطاً هائلة على الموارد الطبيعية والبنية التحتية للمحافظات التي يتم النزوح إليها”. وقالت دانييل بيل، ممثلة مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومديرة مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة (يونامي): “تتفاقم العوائق أمام التعليم بسبب العمر والإثنية والإعاقة والفروقات بين الريف والحضر واستراتيجيات التأقلم الضارة. ويكمن الواقع بالنسبة للعديد من الفتيات والنساء في العراق في أنهن يواجهن بيئة لا تدعم أو تتيح مسارات تعليمية متنوعة.” وقد جاء في تقرير لصندوق Malala Fund نشر في عام 2021 عن الأحداث المتعلقة بالمناخ، أن أربعة ملايين فتاة فى البلدان منخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى، لم يتمكن من إكمال تعليمهن. وان سار الوضع بذات الإتجاهات الحالية، فسيكون تغير المناخ بحلول عام 2025 عاملاً مساهماً فى منع ما لا يقل عن 12.5 مليون فتاة من إكمال تعليمهن كل عام. وفيما يتعلق بالعراق فإن هنالك عوامل عدة تدفع باتجاه تسرب الفتيات من التعليم، على رأسها الفقر وجزء كبير منه سببه التغيير المناخي وشحة المياه ولاسيما في الأرياف، فضلاً عن تكاليف التعليم والزواج المبكر والحمل. وقد أظهرت بيانات مسح رصد وتقييم الفقر في العراق لسنة 2018/2017 ارتفاع نسبة الفتيات والنساء الريفيات الأميات بعمر 10 سنوات فأكثر إذ بلغت نسبتهن 27.3%، مقارنة بنسبة الفتيات والنساء الأميات في المناطق الحضرية والبالغة نسبتهن 15%. وبنحو عام تظهر بيانات المسح، انخفاضاً في نسبة الفتيات والنساء الريفيات مقارنة بالفتيات والنساء في المناطق الحضرية في باقي مراحل التحصيل التعليمي، مما يستوجب وضع حلول للحد من هذه الظاهرة، بحسب ما يكشفه جهاز الاحصاء المركزي العراقي في تقرير واقع المرأة الريفية في العراق.
ارتفاع نسب المتسربات الإناث من المدارس يظهر تقرير نشرته مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (MERI) تراجع معدّل التسرب الإجمالي من المدارس الإبتدائية خلال التسعة أعوام المنصرمة، ليصل إلى متسربين اثنين من كل 100 طالب خلال 2019، بعد أن كان المعدل يبلغ عشرة متسربين عام 2011 حيث مرت البلاد في فترة تدهور أمني وصراعات داخلية. النسب التي تم اعتمادها في التقرير تعود لمسوحات وزارة التخطيط، وتبين تقارباً نسبياً في ارقام تسرب الذكور مع تسرب الإناث في 2019 بعد أن كان التباين كبيراً بين الفئتين في 2011 “إلّا أن الفتيات مازلْنَ يتقدمْنَ الفتية في نسب التسرب في عدة محافظات عراقية”. نسبة تسرب الذكور في عام 2011 كانت 7 من كل 100 طالب ذكر، مقابل تسرب 13 طالبة من كل 100 من الإناث، الفارق بينهما تقلّص في السنوات الأخيرة، فأصبح يتسرب 2 من كل 100 من الذكور، مقابل تسرب 3 فتيات من كل 100 من الاناث خلال 2019.
ويكشف التقرير، الذي اعده الباحث وليد المصلح، عن ارتفاع معدلات الفتيات غير الملتحقات بالمدارس في الريف العراقي بسبب:”وعي بدائي لا يرى في تعليم الإناث أهمية أو ضرورة” وهو ما يجعلهن أكثر عرضة للتسرب وترك الدراسة مقارنة بالذكور. ويلفت التقرير كذلك إلى أنه وعلى الرغم من أن نسبة التسرب الإجمالي للتعليم الابتدائي في محافظات الوسط والجنوب، هي “متسربان اثنان من كل 100 طالب، إلا أن محافظة بابل ضاعفت من تلك النسبة، متفوقة على باقي المحافظات في عدد التلاميذ العازفين عن المدارس إذ أن 4 ذكور يتسربون تاركين التعليم من كل 100 طالب، مقابل 5 فتيات متسربات من كل 100 فتاة، وهي أعلى نسبة تسرب شهدها العام الدراسي 2019-2020”.
وينبه التقرير إلى أن فتيات الأرياف “يعانين من عدم التكافؤ والمساواة مع الذكور في نواحي شتى، التعليم أكثرها حساسية وأهمية” وأن ذلك يظهر جليا من خلال انخفاض نسبة التحاقهنّ بالتعليم الابتدائي في مناطق الأرياف، إذ أن نسبة التحاق الذكور تبلغ 90 طالب من كل 100 من الذكور، بينما تلتحق 87 فتاة من كل 100 فتاة في أحسن الأحوال وفق المسح العنقودي متعدد المؤشرات للعام 2018 ويعد المستوى المعيشي للعوائل، عامل رئيسي في زيادة التسرب أو تحجيمه : “فمقابل كل 10 ذكور متسربين من ابناء العائلات الفقيرة، هناك 6 ذكور من العائلات متوسطة الدخل، مقابل 3 متسربين من الذكور المنحدرين من عوائل ثرية. ومقابل كل 17 فتاة متسربة من بنات العوائل الفقيرة، هناك 9 فتيات عوائلهن متوسطة الدخل، مقابل 4 فتيات من العائلات الثرية، وهذا يُظهر أن الفتيات يتأثّرنَ بالوضع الاقتصادي لعوائلهن أكثر من الذكور، ويتسربْنَ بوتيرة أعلى نسبياً حتى لدى العوائل الثرية.” وأظهر التقرير الموجز للمسح الوطني للفتوة والشباب الصادر عن وزارة التخطيط لسنة 2019، ارتفاع نسبة الذين سبق لهم الالتحاق بالدراسة، ويوصفون بالأمية لأنهم لم يكملوا دراستهم، إذ بلغت نسبتهم 7% بين الفتيان والشباب في عموم العراق، وترتفع النسبة في عدة محافظات هي نينوى 18% وبابل 13% والبصرة 10% والانبار 9%. وجاء في توصيات المسح ضرورة إعطاء اهتمام مميز لسياسات تعليم الفتوة والشباب والسعي للقضاء على الأمية من خلال تفعيل قانون محو الأمية رقم (23) لسنة 2011. تردي الواقع التربوي بالعودة إلى محافظة الديوانية، يقول علاء الشمري مدير عام التربية فيها:”نواجه في جنوبي العراق تحدياً متزايداً يتمثل في تسرب الطلبة من المدارس، والذي يعد ظاهرة خطيرة تستدعي الانتباه والتدخل”. ويشير إلى أن الفتيات، على وجه الخصوص، يتأثرن بشكل كبير:”إذ تدفعهن الظروف الصعبة إلى ترك التعليم والمساهمة في أعمال الأسرة أو البحث عن مصادر رزق بديلة”. وعد الشمري التغيرات المناخية، التي قال بأنها تضرب وبقسوة الاراضي الزراعية، من الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة: “جفاف الأنهار وتدهور الأراضي الزراعية أجبر العديد من العائلات على النزوح نحو مراكز المدن والعاصمة بغداد، بحثاً عن فرص عمل جديدة بعد أن فقدوا مصادر رزقهم الأساسية”. ويرى مدير تربية الديوانية بأن هذا النزوح لم يترك فقط الأراضي الزراعية تموت، بل أيضا ادى الى خلو مدارس من طلابها:”اضطر أبناء هذه العائلات، وخاصة الفتيات إلى ترك مقاعد الدراسة”. وأكد بأن الفتيات يواجهن تحديات مضاعفة: “فبالإضافة إلى الأعباء المنزلية والمسؤوليات التي تلقى على عاتقهن، يحرمن من حقهن في التعليم، مما يؤثر سلبا على مستقبلهن ويحد من قدرتهن على المساهمة الفعالة في المجتمع”. وكان الجهاز المركزي للاحصاء في وزارة التخطيط قد أشار في مسح إلى أن معدل الالتحاق بالتعليم الثانوي في محافظة الديوانية لعام 2011 بلغ 36,6 بالمائة بالنسبة للفتيات، فيما التحق 50,4 بالمائة من الذكور من مجموع 84255 طالب. وأرجع المسح الاسباب الرئيسية للانقطاع المبكر عن التعليم، الى “عدم وجود مدرسة في المنطقة، بالاضافة الى أسباب اجتماعية، خاصة الفقر الذي يجبر الاولياء على تشغيل ابنائهم وبناتهم”. وهنالك من يضيف “الدوام المختلط بين الجنسين” كسبب آخر لعدم التحاق الكثير من البنات في الديوانية بالمدارس ولاسيما الريفيات عملاً بالأعراف والتقاليد السائدة، علما أن هنالك في المحافظة 35 مدرسة للذكور و21 مدرسة للإناث و21 مدرسة مختلطة. فرح الطائي، مديرة مدرسة “جبل أحد” الابتدائية للبنات في الديوانية، تقول بأنها تشهد يوميا الأثر البالغ الذي تحدثه التغييرات المناخية في المجتمع الزراعي من خلال تداعياته على تعليم البنات. وتضيف:”مع تناقص موارد المياه، نرى العائلات تكافح للحفاظ على محاصيلها ومعيشتها، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على قرارات متعلقة بتعليم الإناث”. وتنبه الى أن تعليم الفتيات بدأ يتناقص في السنوات الخمس الماضية:”بعض العائلات اختارت الهجرة نحو محافظات آخرى بحثاً عن فرص عيش أفضل، بينما اضطرت أخرى لإيقاف تعليم بناتها”. وتؤكد الطائي أن التعليم هو “حق أساسي وأداة تمكين لا يمكن التفريط بها”، لذا تدعو المجتمع والمؤسسات المعنية للوقوف مع المؤسسات التعليمية لدعم حق الفتاة في التعليم من خلال “توعية الأهالي وسكان القرى، ومساعدتهم وتشجيعهم على ضمان عدم حرمان أي فتاة من حقها في التعلم وبناء مستقبلها”. تاثير التغيرات المناخية على فرص التعليم خاصة بالنسبة للفتيات، تثير قلق العديد من الجهات غير الحكومية، فضلا عن المؤسسات التشريعية والتنفيذية التي تطلق منذ سنوات برامج وخطط لتقليل معدلات الأمية. محمد عبد الحسين، مدير مفوضية حقوق الإنسان في الديوانية، عبر عن قلقه البالغ لما وصفه بـ”تردي الواقع التربوي” في المحافظة، ولاسيما في المناطق الريفية جراء التغيرات المناخية أو ماينتج عنها من آثار جانبية كهجرة العوائل لمناطق آخرى وترك أطفالهم الدراسة بسبب العمل او بعد المدارس عن أماكن سكنهم. كما أشار إلى ان الديوانية تعاني من “نقص المباني المدرسية وتقادم الكثير منها، بالإضافة إلى نقص الكوادر التربوية المؤهلة”، وهذا يعني أن راغبين في التعلم قد يحرمون من تلك الفرصة نتيجة عدم وجود مدارس في مناطق سكنهم مع عدم قدرتهم على الدراسة في مدارس بعيدة نتيجة تكلفة النقل. ويضيف:”كما ان نقص الأبنية يعني اجبار الطلاب المستمرين بالدراسة على الالتحاق بنظام الدوام المزدوج أو الثلاثي (ثلاث وجبات دوام في بناية واحدة) مما يؤثر سلبا على تحصيلهم العلمي ويعيق تقدمهم. كما يؤدي نقص المعلمين والمعلمات في المناطق الريفية إلى تفاقم المشكلة، مما يهدد مستقبل التعليم في هذه المناطق”. ويرى عبد الحسين أن هذه الظروف “تشكل انتهاكا لحقوق الأطفال في التعليم، وتخالف التزامات العراق الدولية في مجال حقوق الإنسان”، داعيا الجهات المعنية إلى اتخاذ خطوات عاجلة لحل هذه المشكلة، من خلال بناء مدارس جديدة وتوفير الكوادر التربوية اللازمة لجميع المدارس، وإلغاء نظام الدوام المزدوج والثلاثي في جميع أنحاء المحافظة. إجراءات وحلول يقول الباحث الاجتماعي وليد محي الدين، ان التغييرات المناخية أثرت بنحو مؤكد على قدرة الكثير من الفتيات وبنسبة أكبر في الأرياف مقارنة بالمدن، على الإلتحاق بالتعليم أو الإستمرار به. ويرى بأن المجتمع العراقي بغالبيته قبلي وملتزم دينياً “والتشدد فيهما تدفع الإناث ضريبته سواء بمنعهن من التعليم او تزويجهن مبكراً أو إجلاسهن في البيوت”. ويعتقد أن التغيير المناخي وتدهور الأوضاع الاقتصادية، كانت “ذريعة لمن يرى أن مكان المرأة هو المنزل، فعمل على منع ابنته أو شقيقته من الالتحاق بالمدرسة او مواصلة التعليم”، عادا “تفعيل قانون التعليم الإلزامي، الحل لمنع حرمان الإناث بوجه خاص من التعليم والأطفال في العراق بنحو عام”. وينص قانون التعليم الإلزامي العراقي رقم 118 لسنة 1976 في مادته الأولى على “أولا – التعليم في مرحلة الدراسة الابتدائية مجاني والزامي لجميع الأولاد الذين يكملون السادسة من العمر، عند ابتداء السنة الدراسية، أو في 31/12 من تلك السنة .ثانيا – تلتزم الدولة بتوفير جميع الامكانات اللازمة له .ثالثا – يلتزم ولي الولد بالحاقه بالمدارس الابتدائية، عند اكماله السن المنصوص عليه في الفقرة اعلاه واستمراره فيها، لحين اكمال الولد مرحلة الدراسة الابتدائية، او الخامسة عشرة من عمره”. الحقوقي محمد يونس، يبرر عدم تفعيل قانون التعليم الإلزامي للظروف والأزمات التي مر بها العراق خلال العقود الأربع الأخيرة “حروب وعقوبات اقتصادية دولية لأكثر من عشر سنوات ثم حرب وانهيار أمني واقتصادي ثم تداعيات كل ذلك مع فساد مستشر في مؤسسات الدولة”. ويرى ان هناك متطلبات لتطبيق القانون كتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل البطالة والقضاء على الفقر “بعد ذلك يمكن للدولة إجبار ولي أمر الطفل على ارساله إلى المدرسة أو منعه من تشغيله في سوق العمل اذا كان أقل من 15 سنة”. زينب، معلمة في مدرسة الشنافية الابتدائية للبنات، بقضاء الشنافية التابع لمحافظة الديوانية، تضطر كل يوم لقطع مسافة ساعتين تقريباً ذهاباً وإياباً من مركز المحافظة إلى مدرستها، تقول: “أفعل ذلك إيماناً مني بأهمية التعليم ودوره في حياة طالباتي الصغيرات”. لكنها تعبر عن قلقها مما يحدثه التغيير المناخي على الواقع التربوي في المحافظة بنحو عام وفي قضاء الشنافية بنحو خاص:” الكثير من الفتيات لم يلتحقن بالمدارس بسبب سوء الأوضاع المعيشية لعوائلهن، ونزحت الكثير من العائلات إلى مناطق أخرى ولا نعرف ان كان أطفالهم التحقوا بالدراسة هناك”. وتؤكد:”أعداد الفتيات في المدرسة تناقصت بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الماضية، بسبب الهجرة من المنطقة أو بسبب عدم قدرتهم على توفير نفقات تعليم بناتها”. وتنبه المعلمة زينب: “هناك فتيات في هذه المناطق يكافحن لمواصلة تعليمهن، بينما لا تشجّعهن عائلاتهن على ذلك، مما يجبرهن في النهاية على ترك مقاعد الدراسة، والتوجه للزواج المبكر أو العمل لمساعدة أسرهن، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبلهن”. وتشير الى أهمية ضمان كل متطلبات تشجيع الفتيات على مواصلة دراستهن، كتوفر المدارس في كل القرى وتأمين الكوادر التعليمية من النساء. تضيف مستشعرةً حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها: “كيف سيصبح الأمر لو كانت مدرستنا تدار من قبل معلمين فقط، دون معلمات، أعتقد أن ذلك سيؤدي إلى تسرب جميع الطالبات دون استثناء”، مشيرة بنحو ضمني إلى العقلية الذكورية المسيطرة في المنطقة والتي لاتسمح بوجود معلم ذكر في مدرسة للبنات. سليمة، والدة لأربع فتيات وصبي، من محافظة الديوانية، نزحوا الى بغداد، فقدت زوجها قبل أربع سنوات إثر نزاعٍ عشائري أودى بحياته، تاركا لها مسؤولية تربية أطفالها وإعالتهم، وأرضاً زراعية أسرية يشترك فيها 33 فرداً هم مجموع عائلات أشقاء زوجها وكانت مصدر دخل وحيد للجميع. تقول بأن الأرض كانت تزرع بأرز العنبر:”ولم نعد نزرعه منذ عامين، بسبب منع الحكومة زراعته فأصبحت أرضنا مساحة جرداء قاحلة، مما دفعنا للنزوح إلى مناطق مختلفة والتخلي عن الزراعة”. استقرت سليمة مع أطفالها، قبل أكثر من سنة، في منزل صغير غير مكتمل البناء بأطراف بغداد، حصلت عليه بمساعدة من شقيقها النازح مثلها، وتقول أنه غير آمن. كان بعد المسافة بين مدرسة الأطفال ومنزلهم في الديوانية سبباً في عدم التحاقهم بالدراسة، وفي بغداد زاد الوضع صعوبة:”أصبح تعليمهم مستحيلاً. وأنا مضطرةٌ لدفعهم للعمل بدلاً من الدراسة لتوفير لقمة العيش”. ورغم ان الحكومة تقدم مبالغ “رعاية اجتماعية” لمئات آلاف الأسر التي تعاني من غياب المعيل أو من أوضاع معيشية صعبة، الا أن المبلغ لا يكاد يؤمن الحد الأدنى لمتطلبات غالبية الأسر. وتعمل الفتيات الأربع في أجواء غير آمنة صحياً واجتماعياً، فابنة سليمة الكبرى، البالغة من العمر 17 عاماً، تجمع النفايات البلاستيكية من مكبات القمامة ومن واجهات أبواب المحال التجارية، لتبيعها في بعض الأيام بمبلغ لا يتجاوز 3000 دينار (حوالي دولارين). بينما تعمل شقيقاتها الأخريات وكلهن أصغر منها في “جمع بقايا الأغراض المستعملة من مكبات النفايات في المناطق المجاورة. هن لا يملكن خيارا آخر”. تقول الأم ذلك بحرقة وتعبر عن عجزها بالبكاء، ثم تواصل بعد تمالكها لنفسها:”ربما يكون الغد أفضل وتتحسن الظروف، ويلتحق أطفالي بالمدارس مثل باقي الأطفال”. *انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة “أنترنيوز”.