ظاهرة التسول في العراق ليست بالجديدة بل تعود لعقود من الزمن وتنتشر في معظم المحافظات، إلا أن حجمها وخطورتها والأدوار التي تلعبها تختلف من مدينة إلى أخرى، ولبغداد والمدن التي تضم مراقد دينية الحصة الأكبر منها، لكنها في الآونة الأخيرة باتت تمثل تهديدا للأمن الاجتماعي، وتنامت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ في محافظة النجف، ويحذر مختصون من أن التسول لم يعد يقتصر على العراقيين فقط، بل هناك وافدون من جنسيات أخرى يتوجهون إلى المحافظة ويقيمون فيها بشكل غير قانوني لامتهان التسول.
وتقول المتسولة وسن محمد (30 عاما)، خلال حديث لـها، إن “العوز المادي أجبرني على امتهان التسول جراء الظروف الصعبة التي تعيشها عائلتي، فليس لدينا أي مورد مالي لتأمين قوت يومنا ولا لتسديد إيجار المنزل الذي نسكنه”.
وتضيف محمد، “لا أمتلك شهادة أستطيع من خلالها الحصول على وظيفة حكومية، وحتى لو كانت لدي فها هم حملة الشهادات العليا بلا عمل منذ سنوات وبين وقت وآخر يخرجون بتظاهرات للمطالبة بتعيينهم دون جدوى، كما أن فرص العمل في القطاع الخاص ضئيلة جدا”.
وتشير إلى أن “محافظة النجف مقصد لملايين الزائرين المسلمين سنويا، والكثير منهم يتعاطفون مع المتسولين وبالأخص النساء المتسولات، لذلك أحصل على ما يكفي لتأمين احتياجاتنا اليومية من التسول”.
وساهمت أسباب كثيرة في زيادة ظاهرة التسول، منها الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على المواطنين، حيث لم تنخفض نسبة الفقر منذ أكثر من 10 سنوات، عن 20 بالمئة، على الرغم من الخطط والمبادرات التي تُطلق من قبل الحكومة إلا أنها لم تعالج جذور المشكلة، وبالتالي هي مستمرة.
ومع تحقيق المتسول إيرادات يومية مجزية، تحولت ظاهرة التسول في العراق إلى مهنة، تدار من قبل أشخاص متنفذين يعملون في الخفاء لتنظيم عمل المتسولين، حيث نبه وزير العمل والشؤون الاجتماعية، أحمد الأسدي، قبل أيام، إلى رفض متسول لفرصة عمل بمطعم مقابل 500 ألف دينار شهريا (نحو 335 دولارا) لأنه يكسب 60 ألفا (نحو 40 دولارا) باليوم.
وفي هذا السياق، توضح الناشطة رقيه سلمان، خلال حديث لـه، أن “ظاهرة التسول تحولت من طابعها الإنساني إلى الطابع التجاري الموجّه من قبل عصابات تستخدم الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم لجني الأموال وتمويل شبكاتهم من خلالها”.
وتؤكد على أن “التسول مستهجن اجتماعيا لكثرة مضاره واستخداماته السيئة، وتطورت الحالة إلى أن أصبحت هناك شبكات تستعمل المتسولين في تجارة المخدرات والجرائم المختلفة، مثل الاختطاف وصولا إلى الاتجار بالأعضاء البشرية وغيرها”.
وتلفت سلمان، إلى أن “الأمر أصبح وسيلة للكسب من دون بذل مجهود ولا التجول في الشوارع والتقاطعات بل عبر الإنترنت وهو ما يسمى التسول الإلكتروني، حيث أن هؤلاء يستدرون عواطف الناس من خلال عرض قصص إنسانية في سبيل الحصول على تبرعات”.
وكانت مستشارة رئيس الوزراء للرعاية الاجتماعية، سناء الموسوي، قد كشفت في آب أغسطس 2023، عن توجه حكومي لشمول المتسولين برواتب الرعاية التي تقدمها الدولة، إلا أنه لم يطبق حتى الآن.
ولا توجد إحصائيات رسمية، إلا أن الواقع يشي بأرقام مفزعة وحسب إحصاءات وزارة التخطيط العراقية، فقد كشفت في نيسان أبريل 2023، عن أن نسبة الفقر في البلاد تبلغ 22 بالمئة، في بلد يربو عدد سكانه على 43 مليونا، إلا أن الحكومة أكدت، اقترابها من مكافحة ظاهرة التسول.
بدوره، يصف الباحث الاقتصادي عبد السلام حسن، خلال حديث لـه، التسول بأنه “لم يعد ظاهرة، بل إنه دوام رسمي مبرمج تقوده مافيات، وقد التقينا بأشخاص من هذه المجموعات وقالوا إن زعماء هذه المافيات يقدمون لهم كل ما يحتاجونه من مستلزمات كالغذاء والدواء والمأوى وحتى الأطفال الذي يستخدمونهم في التسول، وعادة هم أطفال تم اختطافهم أو أستئجارهم من ذويهم”.
ويتابع “وبالإضافة إلى ذلك تقوم هذه المافيات باستيراد أشخاص من الخارج وزجهم في الشوارع العراقية للتسول ومن ثم تحويل ما يتحصلون عليه من أموال إلى خارج البلاد، مما يؤثر اقتصاديا على البلد”.
وكان مدير قسم مكافحة التسول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، هيثم عادل، قد أكد في تصريح لـه، في 14 كانون الثاني يناير الماضي، أن “لجنة تم تشكيلها قبل عامين قامت بإعداد مسودة المشروع، وأنها الآن قيد الإقرار وسيتم عرضها على رئيس الوزراء للبت فيها”.
وأوضح أن “الخطة تحدد مهام متعددة من حيث الأداء والقيادة والمتابعة وتقييم الأداء وتحليل مناطق القوة والضعف”، مشيرا إلى أن “الوزارة تلقت تكليفا في عام 2015 بتشكيل قسم مختص في مكافحة التسول، كما شكلت لجانا في المحافظات بالتعاون مع مختلف الوزارات والمؤسسات لتعزيز جهود مكافحة التسول”.
إلى ذلك، يشدد مدير إعلام قيادة شرطة النجف، المقدم مفيد سالم، خلال حديث لـه ، أن “التسول ظاهرة سلبية ولا تقتصر على مجتمع أو مدينة معينة، وهي من الجرائم الاجتماعية، وتعد الأماكن العامة والشوارع والأسواق الوجهة المفضلة للمتسولين”.
ويلفت إلى أن “معدلات التسول داخل المحافظة لا تختلف عن باقي المحافظات المشابه لها من حيث المكانة الدينية بل قد تكون النجف من أقل المحافظات بذلك”.
وينوه إلى أن “التوجيهات لمكافحة هذه الظاهرة مستمرة من قبل قائد شرطة المحافظة اللواء علاء جابر هاشم الذي يؤكد على تطبق القانون وتفعيل دور الأجهزة الأمنية والإجراءات القانونية بحق المخالفين ولا يسمح بوجود مثل هكذا حالات”.
تجدر الإشارة إلى أن وافدين من جنسيات أجنبية وتحديدا من إيران وأفغانستان وباكستان والهند ودول أخرى، يدخلون إلى العراق خلال مواسم الزيارات الدينية ويتوجهون إلى المحافظات والمدن الدينية كالنجف وكربلاء والكاظمية والأعظمية وسامراء، ويقيمون هناك بشكل غير قانوني ويمارسون التسول، وبين فترة وأخرى تعلن الأجهزة الأمنية عن اعتقال مجموعة من هؤلاء وترحيلهم إلى بلدانهم.
وفي الجانب القانوني، يبين الخبير علي التميمي، خلال حديث لـه، أن “القانون العراقي تضمن عقوبات على تجنيد الأطفال لأغراض التسول، وكذلك قانون مكافحة الاتجار بالبشر، حيث يعاقب في المواد 390، و391، و392 بالحبس البسيط والغرامات المالية على التسول، أو الإيداع في دور الرعاية التابعة للدولة في حالة التكرار”.
ويردف “عند التمعن في نصوص المواد أعلاه تجدها تجيز التسول لمن لا عمل له، هكذا يتم فهم النص، لكن عند إيجاد البدائل يمكن إيقاع العقاب، كما أن قانون الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2018، تتراوح عقوبته بين الحبس والإعدام وغرامات بين 5 إلى 10 ملايين دينار”.
ويختم التميمي بأن “قانون رعاية الأحداث العراقي رقم 76 لعام 1983 يحتاج إلى تعديل بهذا الجانب لمعالجة مشكلة الطفولة التي تحتضر في العراق، كما أن تطبيق قانون مكافحة الاتجار بالبشر يحتاج إلى جهد استخباري عالي وتعاون مجتمعي وتفعيل البلاغات، ويحتاج إلى تعديل بهذا الجانب”.
وكان عضو لجنة العمل النيابية، جاسم الموسوي، قد دعا خلال تصريح له في كانون الثاني يناير الماضي، إلى “تسريع الإجراءات المتعلقة بتوفير رواتب الرعاية الاجتماعية للمحتاجين والعمل على إصدار قوانين تحاسب على هذه الظاهرة”، مؤكدا على “أهمية مراقبة الحالات الشاذة وتقديم الدعم اللازم للأشخاص الذين يحتاجون إلى الرعاية الاجتماعية، وضرورة وضع قوانين تسهم في محاربة التجارة غير الشرعية بالبشر ومحاسبة المسؤولين عن ذلك”.
وكشف المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، في آذار مارس 2023، عن وجود ثلاثة أنواع من المتسولين: الأول هم المتسولون المحتاجون، وهؤلاء أشخاص يكونون تحت خط الفقر، ويقومون بالتسول لتوفير أدنى مستوى من احتياجاتهم الفعلية، أما النوع الثاني فهم الأشخاص من الجنسيات غير العراقية، ومن بينهم الهنود والسوريون، والنوع الثالث يتعلق بعصابات الجريمة المنظمة، التي تستغل المتسولين.