بعد أن كانت خصوصية العائلة لا تتجاوز باب الغرفة لتصل إلى الغرفة المجاورة داخل المنزل، اقتحمت منصات التواصل الاجتماعي المنازل ليطلع الآخرين على ما يدور فيها عن طريق مقاطع البث المباشر وغير المباشر التي يتم تصويرها من قبل أفراد العائلة أنفسهم ومن ثم نشرها للعلن وبعضها “خادشة للحياء”.
مجاميع تواصل اجتماعية نسائية وأخرى رجالية تكشف تفاصيل “مخجلة” تحصل في المنازل، تارة تكون مشكلة مع الزوج وتارة أخرى تفاصيل تتعلق بالوالدين والأبناء لتتوالى بعدها الآراء من قبل أعضاء المجاميع “الفيسبوكيين” وغيره من مواقع التواصل، وبعض الآراء تكون غير حكيمة وتؤدي إلى مشاكل أكبر، الأمر الذي يصفه مراقبون بأنه يدق ناقوس الخطر في حالات التفكك الأسري بالمجتمع العراقي.
وتقول مريم قاسم (31 عاما)، خلال حديث لها، إنه “في مكالمة مع صديقتي المقربة كنت أتذمر من الروتين الحياتي المملل فأخبرتني مجموعة نسائية في الفيسبوك تقوم فيها الفتيات بطرح الكثير من المواضيع منها المسلية ومنها مشاكل تحتاج إلى حلول ومعالجات فقامت بإضافتي إلى المجموعة”.
وتضيف “يوما بعد يوما ومع قراءة كل قصة جديدة تحتوي على مشكلة لصاحبة المنشور بدأ الموضوع ينعكس سلبا على حياتي الشخصية رغم أنها كانت هادئة مع زوجي وأطفالي ولكن كثرة قصص الخيانة التي تنشرها بعض النسوة جعلتني أشك وأفتش في خصوصيات زوجي وشيئا فشيئا بدأت بفقد الثقة به”.
وتشير إلى أن “الكثير تعرضوا لما تعرضت أنا له على الرغم من عيشهم حياة طبيعية هادئة ولكن كثرة قراءة القصص السلبية في المجموعة تجعلك تشك في من حولك ودون إدراك منك تتغير طباعك وتفكيرك وطريقة تعاملك وثقتك بمن حولك لما تعكسه الأفكار السلبية على شخصك”.
وكانت وزارة الداخلية وكذلك مجلس القضاء الأعلى وجهات عدة قد أكدت في تصريحات سابقة أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أدى إلى ارتفاع نسب الطلاق في العراق والمشاكل الزوجية التي انتهت بعضها بالقتل والمشاجرات.
بدورها تشرح مسؤولة أحد الكروبات النسائية، والتي رفضت الكشف عن اسمها، خلال حديث لـه، أنه “في فترة جائحة كورونا والحجر الصحي الكثير فقدوا أعمالهم بالإضافة إلى تعطيل وتقليل أيام الدوام بصورة إجبارية، الأمر الذي دفعني إلى إنشاء كروب عبر الفيسبوك للترفيه وتبادل النكات والأحاديث الطريفة فيما بيننا”.
وتوضح “استمررت بإضافت النساء لطرح الأحاديث والآراء بحرية مطلقة، وأصبح متنفس للكثير من الفتيات اللاتي لا يوجد من يسمعهن ويحترم رأيهن وتمكنت من تكوين صديقات كثيرات عن طريق الكروب”.
وتشير إلى أن “أعضاء الكروب تجاوز عددهم المليون الأمر الذي أصبح يضيف مسؤولية ثقيلة علينا لاسيما أن القضايا التي أصبحت تطرح خصوصية جدا بالبيوت ما سبب لي متاعب كبيرة حتى وصلت إلى التهديد، والسبب بوست نشرته إحدى الفتيات عن مشكلة تخص عائلة زوجها الأمر الذي جعلني أغادر الكروب وأحافظ على عائلتي وحياتي بعيدا عن المشاكل والتهديد”.
وتتابع “هذه ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها لهجوم من قبل الأقرباء بسبب منشورات تنشر في المجموعة ويعرف الشخص المعني أنه المقصود وفي حال رفضي مسح المنشور تنهال الشتائم والألفاظ البذيئة بحقي وحق المسؤولات الأخريات وتنتهي بالتهديد”.
وتنتشر منذ سنوات “صرعات” عدة يقلدها مدونون بينهم مراهقون على مواقع التواصل الاجتماعي، بدافع الشهرة أو الحصول على المال، تعد دخيلة على المجتمع من قبيل تبديل الملابس أمام الكاميرا أو عمل المقالب بالأهل أو تصوير الزوجين لأنفسهم وهما في الفراش.
من جهته، يؤكد الباحث الاجتماعي أحمد الذهبي، خلال حديث لـه، أن “انتهاك الخصوصية في مواقع التواصل الاجتماعي، انتشر بشكل كبير في الآونة الأخيرة وبأشكال متعددة منها التي تتم بموافقة الشخص ومنها دون موافقة واختراق واضح للخصوصية”.
ويؤكد أنه “في الآونة الأخيرة انتشرت مجاميع تواصل اجتماعي يتم فيها تبادل الأحاديث والمشاكل لكنها شيئا فشيئا أصبحت أداة خطرة على خصوصية وأمن واستقرار المنازل العراقية، بل هي أشبه بالسطو المسلح”.
ويشير إلى أن “من الأشياء الغريبة التي تحدث في المجتمع هي انتشار الكثير من مجاميع التواصل الاجتماعي النسائية والرجالية التي يتم فيها على طرح مشاكل خاصة تحدث في منازلهم ويقومون بانتظار تفاعل من قبل الآخرين وربما ينتظرون حلولا ويقومون بأخذها بعين الاعتبار والتي غالبا ما تكون غير صائبة”.
ويرى الذهبي أن “هذه التصرفات هي اضطراب نفسي وبحاجة إلى علاج نفسي وجلسات مكثفة مع مختص نفسي والمجتمع بأكمله أصبح بحاجة إلى إضاءات وإرشادات نفسية”.
وخلال الفترة الماضية، أصبحت ظاهرة البث المباشر وتصوير فيديوهات رقص وتغيير الملابس، أو ما يعرف بـ”اليوميات” أو الفلوكات، من أبرز المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي، وكل هذه الفيديوهات تصور داخل المنازل بوجود العائلة بأكملها وليس بشكل سري، حتى وصلت بعض الفيديوهات إلى تصوير “أماكن حساسة”، لدى النساء بغية الحصول على الشهرة، وهو ما يتحقق حيث يتم تناقل هذه الفيديوهات بشكل كبير من قبل عشرات الصفحات.
بدورها تبين الباحثة النفسية إيناس هادي سعدون، خلال حديث لـه، أن “الأبحاث السابقة قدمت بعض التفسيرات لسبب رغبة الأفراد في مشاركة سر ما، وهي أن الكشف عن الأسرار يؤدي إلى تخفيف القلق والضيق عند التعرض لأفكار تطفلية، وزيادة احترام الذات والرفاهية، وانخفاض الانزعاج والتوتر”.
وتشرح أنه “من وجهة نظر طبية، تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على وظائف المخ المختلفة بطرق فريدة، فهي تحتوي على العديد من مجموعات المحفزات التي يمكن أن تؤدي إلى ردود أفعال مختلفة، ولهذا السبب، تظهر تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي على الدماغ بطرق متنوعة”.
وتكمل “وجدت دراسة أخرى استخدمت تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي لمراقبة نشاط الدماغ، نتائج مماثلة، عندما قام الباحثون بتحليل أدمغة المراهقين الذين يتصفحون إنستغرام، وجدوا أن مشاهدة الصور التي تحتوي على عدد كبير من الإعجابات مقارنة بالقليل، كانت مرتبطة بنشاط أكبر في المناطق العصبية المرتبطة بمعالجة المكافأة، والإدراك الاجتماعي، والتقليد، والاهتمام”.
وتتابع سعدون، أن “ارتباط وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل وثيق بأنظمة مكافآت الأفراد، ينبغي للمستخدمين أن يدركوا قوة وإمكانية إساءة استخدام المنصات التي يستخدمونها، حيث تتمتع أشياء مثل المقامرة والمخدرات بالقدرة على التحكم في نظام المكافآت في الدماغ بقدرة مماثلة، ويجب أن يكون مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي على دراية بهذه أوجه التشابه لتجنب المخاطر المحتملة”.
وتوضح “هنالك العديد من الدوافع منها الاحتياجات الفسيولوجية حيث يقوم الأشخاص أحيانا بالنشر لصالح صحة أو رفاهية أو مساعدة أصدقائهم وعائلاتهم للمساندة واقتراح حلول للمشكلات، بالإضافة إلى الشعور بالأمن والسلامة ضمن مجموعات بشرية مؤيدة ومتعاطفة ومهتمة بموضوعهم أكثر من الأشخاص المقربين الذين لا يمكن البوح لهم بالمشكلة”.
وتردف “ومن الدوافع أيضا الشعور بالحب والانتماء حيث يرغب المستخدمون عموما في النشر ليشعروا بنوع من القبول الاجتماعي من مجموعة أو فرد معين، بالإضافة إلى إحساسهم بالتقدير حيث يريد الناس الشعور بالراحة والهدوء، مما يساعد في تفسير سبب قيام الأشخاص بنشر محتوى يتمحور حولي بانتظام وفقا لنظام المكافآت في الدماغ”.
وتنوه سعدون إلى أن “البعض الآخر ممن يعاني من اضطرابات نفسية يحاولون فيها جذب الانتباه، والحصول على المزيد من التعاطف والاهتمام من قبل الآخرين كالتنفيس عن مشاعر الذنب عندما يحصل على مؤيدين له في السلوك لمشكلات وأسرار خاصة وأخطاء يقوم بها الشخص يشاركها مع الآخرين”.
ووصل عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم خلال العام الماضي، إلى رقم قياسي يقدر بنحو 4.9 مليار، وفقا لتقرير لمجلة “فوربس”، ومن المتوقع أن يقفز هذا الرقم إلى ما يقرب من 5.85 مليار مستخدم، بحلول عام 2027، حسب المجلة.