15 May
15May

وسط منطقة حيوية في مركز محافظة بابل، وبالقرب من مستشفى الولادة، لم يكن هناك من يتوقع أن تجثم تحت أحد أرصفة تقاطع باب المشهد، مقبرة جماعية تضم رفات العديد من أهالي المدينة منذ انتفاضة آذار “الشعبانية” عام 1991 ضد النظام السابق، لكن شاهدين اثنين وصحفيا من أهالي المدينة، أصروا على كشف هذه الحقيقة الغامضة على الرغم من الصعوبات التي اعترضتها.
ويقول الصحفي المختص بشؤون محافظة بابل، محمد الغزالي، خلال حديث لـه ، إن “المصدر الذي دلّ على هذه المقبرة، هم الناس أنفسهم، فما نطرحه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي من خلال متابعة قضايا الفساد في المحافظة وهموم أهاليها ويومياتهم، يشجع الكثيرين على الاتصال وكشف المعلومات التي منها ما تكون غامضة”.
في العام الماضي، ورد اتصال للغزالي من أحد متابعي صفحته على الفيسبوك، عن وجود مقبرة جماعية تعود لضحايا “الانتفاضة الشعبانية” في آذار مارس عام 1991، لكن الغريب أنها تقع تحت رصيف أحد التقاطعات الحيوية وسط مدينة الحلة.
ويضيف الغزالي: “من خلال البحث بدأت خيوط أكبر تتضح لي، لذا قررت أن ألتقي بالشاهد الذي اتصل بي شخصيا، إذ ذكر الأخير أنهم منذ عام 2017 قدموا إخبارا وأبلغوا الجهات المختصة بالأمر، ثم جاءت لجنة للكشف على الموقع تتكون من قاض ومدع عام وضابط شرطة وممثلين عن مؤسسة الشهداء والمقابر الجماعية، وحددوا الموقع وحدث كشف موقعي وأدلى شهود العيان بشهاداتهم”.
ويتابع أن “أحد الشهود، وهو رجل سبعيني، أخبرني أن الأحداث آنذاك وما تلاها من تظاهرات ثم جائحة كورونا تسببت في إهمال الملف، ليعاد فتحه في ما بعد، لكن الشاهد فوجئ بأن تقرير الكشف قد تغيّر، لأن الموقع الحقيقي هو الموقع الحالي الذي جرى حفره، ويقع خارج مستشفى الولادة بالقرب من إشارة المرور، لكن التقرير الذي أعيد فتحه تحدث عن موقع آخر داخل مستشفى الولادة، وهو ما جعل الشاهد يعترض لأن البحث في هذا الموقع لن يكشف شيئاً، وانتهى الموضوع دون أي تطور”.
ويكمل الغزالي: “عندما أخبرني الشاهد بهذه الحقيقة في العام الماضي، بحثت من دون الاعتماد على كلامه وتتبعت الموقع بالعودة إلى سنين سابقة، وعدت إلى دائرة المقابر لأجد بعض الكتب والمخاطبات، فاستطعت من جديد فتح الموضوع بإقامة دعوى أمام المدعي العام وتحولت للأمن الوطني وحدث فيها تحقيق جاد مرة أخرى”.
يواصل “قبل العيد اتصلت بي مؤسسة المقابر الجماعية في بغداد ليحددوا موعدا لمجيء لجنة أخرى للكشف عن هذا الموقع، وجاءت اللجنة مطلع الأسبوع الحالي واستعنا بالجهود الخدمية للمحافظة وبلدية الحلة، وفي أول يوم عمل لم نستطع أن نجد شيئا”.

أصرَّ الصحفي المختص بشؤون المحافظة، في اليوم الثاني على الاستعانة بالشاهدين قبل الحفر، لأن الشك بدأ يتسرب إلى نفوس اللجنة والعاملين بعدم وجود شيء، يقول: “كنت عازما على إقناع الشاهدين على الرغم من خشيتهم الظهور والكشف عن هوياتهم”، لافتا إلى أن “الرجل السبعيني، أوضح للجنة بأن الحفر يمتد إلى مترين ونصف عمقا حتى يظهر كابل أسود وصبة كونكريتية”.
وبالوصول إلى هذا العمق وهذه الدلائل، يشير الغزالي إلى أن “مجموعة من العظام ظهرت، ثم توقف العمل لأن اللجنة انتهى عملها بظهور هذه العظام فهي دليل على وجود مقبرة”.
وكانت شرطة محافظة بابل أغلقت الأحد الماضي، تقاطع باب المشهد وسط مدينة الحلة بحضور مكثف للقوات الأمنية، على خلفية الاشتباه بوجود مقبرة جماعية في ركن مستشفى النسائية والأطفال، يُعتقد أنها تضم رفات ضحايا الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت في عام 1991.
وأبدى الكثير من الأهالي استغرابهم من الخطوة حتى من شهد الأحداث، إذ ذكر محمد نعمة (60 عاما) قبل المباشرة بعمليات الحفر، إنه يعمل في هذه المنطقة منذ الثمانينات ولم يشهد أن هذا الموقع كان أرضا محفورة فهو رصيف منذ ذلك الوقت.
كانت حفرة!
لكن الغزالي، يدحض هذه الأحاديث بشاهديه اللذين أكدا أن هذا الموقع كان محفورا عام 1991، وأثناء الانتفاضة الشعبانية، بسبب أعمال صيانة تابعة لدائرة الاتصالات تخص تنصيب كابينات للهواتف الأرضية آنذاك، إذ “أقدمت آليات على رمي مجموعة من الجثث في هذه الحفرة التي تمت توسعتها بشكل أكثر عمقا وإهالة التراب على الجثث” وفقا للشهود.
وتأتي هذه الأحداث لتذكر بفصل مؤلم من تاريخ العراق، حيث قُمعت الانتفاضة الشعبانية بعنف شديد، وراح ضحيتها الآلاف من المدنيين، وتعد الانتفاضة واحدة من أبرز الأحداث التي شكلت ملامح العراق الحديث.
يُشار إلى أن الانتفاضة الشعبانية كانت قد اندلعت في أعقاب حرب الخليج الأولى، وشهدت مواجهات عنيفة بين القوات العراقية والمعارضين للنظام السابق.

كما أن العراق خصص يوم 16 أيار مايو (يصادف غدا) ليصبح اليوم الوطني للمقابر الجماعية، وذلك لتسليط الأضواء على مصير الأفراد الذين تم قتلهم واختفوا نتيجة عقود من الصراع وانتهاكات لحقوق الإنسان و تم دفنهم في المقابر الجماعية.
من جهته، يتحدث مصدر من دائرة المقابر الجماعية، لـه، أن “فريقا من دائرته واصل الحفر لأكثر من مترين حتى عثر على مجموعة من العظام التي اتضح أنها تعود لأشخاص مختلفين”.
ويضيف المصدر الذي لم يشأ ذكر اسمه، أن “الفريق واجه صعوبة في عمليات الحفر، كون المنطقة تحتوي على بنى تحتية وكوابل ضوئية وخط كهرباء طوارئ موصل بقسم الخدج في مستشفى الولادة”، مشيرا إلى أن “الشهود أدلوا بأن شهادة عيانية لهم على قتل مجموعة من الأشخاص ودفنهم في هذا الموقع”.
وعن آليات فتح المقابر، يؤكد المصدر أن “الفرق تعمل بموجب قانون حماية المقابر رقم 5 المعدل لسنة 2006 المعدل بقانون رقم 13، وتبدأ الإجراءات بعمل كشف لتقييم الموقع وتستكمل الإجراءات حتى حصول الموافقة من قبل لجنة برئاسة قاض وممثلين عن الطب العدلي ووزارة الداخلية وباستكمال الإجراءات يخرج فريق مخصص للفتح”.
ويتابع أن الفريق ينقسم إلى مجاميع؛ “هناك القسم الآثاري والقانونيون الذين يقومون التحقيقات وخبراء تصنيف العظام وإعلامي يوثق الإجراءات بمشاركة الطب العدلي”، لافتا إلى أن “الدائرة تمتلك خبراء مختصين بجمع العينات باشتراك الطب العدلي”.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة