سلطت الاتفاقية التي أبرمها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الضوء على ما سمي من قبل متخصصين بـ"التزاحم الدولي" حول العراق، فيما ربطوا ما يجري بالمتغيرات في القارة العجوز والقضية الأوكرانية، مؤكدين من جانب آخر وجود منافسة فرنسية - أمريكية بشأن البلد، لكن استبعدوا تأثيرها على فتح قنوات الشراكة الحالي.
ويقول الصحفي العراقي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" حسين الوائلي، خلال حديث له، إن "فرنسا لها نفوذ قديم جدا في العراق قد يوازي النفوذ الأمريكي، والشراكة مع فرنسا تفتح آفاق التعاون مع الأوروبيين وتتيح قناة دبلوماسية جديدة".
ويعتقد الوائلي أن "فرنسا تزاحم أمريكا في المنطقة لاسيما في العلاقة مع العراق فهو بلد طاقة، وكذلك يزاحمون الأتراك الذين لديهم مشكلة حقيقية معهم"، مشيرا إلى أن "الشراكة مع فرنسا فاعلة ومهمة، أما أمريكا فلم تعط رأيا بهذه العلاقة، لكنها تؤمن بأنها تقاسم نفوذ".
وعن تطبيق الاتفاقيات، فيوضح أنه "يعتمد على جهد الحكومة العراقية فيما إذا ما قدمت تسهيلات وهي ماضية بها، خاصة في قطاع النفط والطاقة ولا مشكلة أو عراقيل بها، وحتى أن وجدت فان فرنسا وألمانيا سيجاوزان ذلك فهما يزاحمان أمريكا في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية وعن العلاقة بالشرق الأوسط"، مؤكدا أن "لا سلبيات في الاتفاقيات مع فرنسا ولا مشاكل".
وكان رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، وقع يوم أمس اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عدت الأولى من نوعها بين بغداد وباريس، فهي تتضمن 4 فصول و6 أبواب و50 مادة و64 فقرة.
ومن أبرز ما تضمنته الاتفاقية: تعزيز التَّعاون في مجال حماية البيئة ومكافحة الاحتباس الحراريّ، ومواجهة مخاطر التَّهديدات الإرهابيّة ومكافحة التَّطرُّف، وتشكيل لجان ثنائية في مجالي الدفاع والأمن ومتابعة تنفيذ الخطط السَّنويّة للتعاون الثنائيّ الدِّفاعيّ.
كما تضمنت: تعزيز قدرات الدفاع العسكريّة العراقيّة من خلال تنمية المهارات الضروريّة وتسهيل التزوّد بالمُعدات الحربيّة فرنسية الصُّنع وتفعيل تبادل المعلومات والاستخبارات العسكريّة بين الطرفين، ويعزِّزُ البلدان التَّعاون التقنيّ والعملياتيّ بين وزارتي الداخلية والعدل في كليهما بشأن مكافحة الجريمة المنظّمة العابرة للحدود ومكافحة الاتّجار بالمُخدَّرات والبشر ومكافحة الجريمة الاقتصاديّة والماليّة.
واشتملت على: تنفيذ مشاريع مُحدَّدة ورائدة في جميع ميادين الاقتصاد والزراعة والصِّناعة والطاقة والماء والنقل والبيئة والسياحة والاتصالات والبنى التحتيّة، ومكافحة الفساد وإصلاح القطاع المصرفيِّ والجمارك، وتشجيع استثمارات الشركات الفرنسيّة وتشجيع الحوكمة الرشيدة في إدارة الثروات الطبيعيّة، والعمل على تنفيذ مشاريع استثمار الغاز المصاحب لإنتاج الكهرباء، وتنفيذ مشاريع جديدة في قطّاع المياه الصالحة للشرب والصرف الصّحيِّ وتنمية المشاريع القائمة.
كما نصت بنودها: تسهيل إجراءات السفر بين البلدين لتعزيز التَّعاون التجاريّ والاقتصاديّ والعمليّ والسِّياحيّ، وتقديم الخبرة الفرنسيّة في مجال بناء السدود وتحديثها، ودعم تطوير الصناعة الدوائيّة في العراق، والعمل على إعادة تأهيل المواقع الأثريّة التي دمّرتها المُنظَّمات الإرهابيّة بالتعاون مثلًا مع منظمة اليونسكو والتحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع، والعمل على تسهيل استصدار سمات الدخول السياحيّة لرعايا البلدين، وفقاً لتشريعاتهما الداخليّة.
إلى ذلك، يعزو المحلل السياسي خالد عبد الإله، خلال حديث لـه "التوجه الفرنسي نحو العراق إلى سياسة الأدوار والمحاور التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فبعد فشل مبادرة فرنسا في لبنان اتجهت إلى العراق، لأهداف اقتصادية تتعلق بالنفط والغاز وكذلك المصالح التي من الممكن أن تحصل عليها الشركات الفرنسية بعد الركود الاقتصادي الذي شهده العالم أثناء وباء كورونا وكذلك الأزمة الروسية".
ويضيف عبد الإله أن "علاقات تاريخية تربط فرنسا بالعراق، لاسيما الترابط العسكري أثناء قتال تنظيم داعش ومشاركة فرنسا، وهذه ستشكل نقطة جوهرية بالثقة في المشاريع المستقبلية".
ويتابع أن "فرنسا وألمانيا هما من تقودان أوروبا حاليا، فالتوجه لتعزيز العلاقات مع هذه الدول المتطورة صناعيا يأتي في مصلحة العراق"، لافتا إلى أن "التنوع في الشراكات الإستراتيجية سواء مع فرنسا او تركيا والسعودية وإيران تنعكس إيجابا على العراق وهو الآن يبحث عن شركات تؤمن مصالحه، وهذا النشاط لم يأت من رغبات أمريكية أو إيرانية، بل نتحدث عن رغبات عراقية بامتياز حيث أن الزيارات التي يجريها السوداني تأتي في إطار نسق عراقي داعم للسوداني".
ويضيف أن "حكومة السوداني عن سابقتها، فهو يريد ربط الاستثمار بأدوات حقيقية، ويتجه إلى تطوير علاقاته الخارجية من أجل النجاح في استرداد الأموال المنهوبة أو المطالبة بالأموال".
يذكر أن العراق أبرم العديد من الاتفاقيات مع أمريكا، بدءا من اتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2008، التي ركزت في غالبها على الجانب الأمني وتواجد القوات الأمريكية في العراق، كما نصت على أن الطرفين يوافقان على الاستمرار في تعاونهما الوثيق في تعزيز وإدامة المؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات السياسية والديمقراطية في العراق، وفق ما قد يتفقان عليه، بما فيها التعاون في تدريب وتجهيز وتسليح قوات الأمن، من أجل مكافحة الإرهاب المحلي والدولي والجماعات الخارجة عن القانون، بناء على طلب من الحكومة العراقية.
كما أنهت الحكومة السابقة جولات الحوار الاستراتيجي مع أمريكا، التي بدأت عام 2020، حيث ركز الحوار، الذي يعد أيضا امتدادا لاتفاقية الإطار الاستراتيجي، على تقديم أمريكا المساعدة لإنشاء قطاع خاص أكثر حيوية في العراق، وأنه بإمكان الشركات الأمريكية تقديم المساعدة في تنويع الاقتصاد العراقي من خلال الاستثمار فيه.
الإطار يرحب
بدوره، يوضح المحلل السياسي المقرب من الإطار التنسيقي جاسم الموسوي، خلال حديث له، أن "السوداني يتبع سياسة خاصة في علاقاته الخارجية لاسيما مع وجود مخاوف من أن الحكومة الحالية ستكون منكمشة ولديها عُقد في إقامة علاقات واتفاقيات مع دول قريبة من أمريكا، وأن إيران هي المستحوذة على علاقات الحكومة العراقية".
ويضيف الموسوي أن "العراق أثبت قدرته على إقامة علاقات واتفاقات مع دول دون أخرى بقدر استفادته، وعلى سبيل المثال أن ألمانيا قريبة من أمريكا، وبالتالي لن تثيرها أي علاقة مع دولة أخرى، كما أن العراق لن ينتظر المواقف الإيرانية أو الأمريكية في تحديد علاقاته واتفاقياته، وهما لم يتدخلا بهذه الاتفاقيات".
ويتابع أن "المصالح لها أولوية في إقامة العلاقات، وفرنسا ضمن حلف الناتو، فلا اعتقد أن أمريكا ستعترض على هذه الاتفاقيات مع فرنسا لاسيما أنها قائمة على مصالح محددة وليست شاملة، وعليه فأن كل جانب يعمل بمصلحته الخاصة"، مشيرا إلى أن "سياسة العراق الاقتصادية ليست امتدادا للجانب السياسي، إنما وفقا للحاجة الاقتصادية".
ويؤكد الموسوي أن "توجه فرنسا للعراق يأتي باعتبار الأخير جدار التوازن في الشرق الأوسط والمشرق العربي الذي يعد أولوية للجانب الفرنسي بسبب تأثير العراق على أمن المنطقة، مع وجود مصالح فرنسية في الخليج والحاجة الماسة حاليا إلى الثروات الطبيعية الموجودة فيه والحاجة للطاقة، وهذه عوامل تجعل فرنسا تتسابق على العلاقة مع العراق".
وفي ما يخص إيران، فأن محللين سياسيين اشاروا في تقرير سابق إلى أن حلفاء إيران في الداخل العراقي سيعملون على أن لا يكون هناك تقدم في تطبيق الاتفاقات الحكومية مع الجمهورية الفرنسية بالتحديد، وذلك بعد تصريحات ماكرون حول تقليص نفوذ إيران في المنطقة.
يشار إلى أن فرنسا تسعى إلى أخذ دور في العراق، على الصعيد الأمني والاقتصادي، وذلك تجسد بشكل كبير خلال الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، حيث زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العراق أكثر من مرة، فضلا عن زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي إلى بغداد.
يذكر أن تقارير كثيرة تناولت سابقا، الدور الفرنسي في العراق وأسبابه، وبحسب محللين سياسيين في العراق وفي أوروبا، فأن فرنسا تعتقد أن العراق منطلق مهم لأمنها، فالأمن العراقي والفرنسي مرتبطان معا، نظرا لوجود مقاتلين فرنسيين في التنظيمات الإرهابية بالعراق، وفي الوقت ذاته فان فرنسا تبحث عن حصة للاستثمار، خاصة إذا جرت تهدئة في العراق، إلى جانب محاولة تقربها من تركيا، عبر توجهها نحو نينوى، وذلك نظرا للخلافات الحادة بينها وبين أنقرة، كما أكدوا أن فرنسا تحاول أن تضع موطأ قدم في المنطقة أو بالتحديد المثلث الذي يجمع تركيا وسوريا والعراق.
قانونيا ونيابيا
إلى ذلك، يوضح الخبير في الشأن القانوني علي التميمي، خلال حديث له أن "قانون المعاهدات رقم 35 لسنة 2015 أطلق صلاحية رئيس الوزراء في عقد الاتفاقات التنفيذية ومذكرات التفاهم والعقود، ولا تحتاج هذه النشاطات إلى موافقة البرلمان، إذ تعتبر نافدة بمجرد التوقيع عليها من رئيس الوزراء أو الوزير طبقاً لأحكام المادة الثانية من القانون، ذلك أن المادة الخامسة من هذا القانون أعتبرت رئيس الوزراء هو الممثل الرسمي لجمهورية العراق وقد جاء هذا الحكم تطبيقاً لحكم المادة 78 من الدستور التي اعتبرت رئيس الوزراء المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة".
أما بالنسبة لعقد المعاهدة أو الاتفاقية فأن "لرئيس الوزراء التوقيع على الأحرف الأولى لكن يجب عرضها على البرلمان للمصادقة عليها طبقاً لأحكام المادة 61/رابعاً من الدستور، والمعاهدة يعرفها القانون السابق هي التي تعقد باسم جمهورية العراق أو حكومتها مع دولة او منظمه دولية أو شخصية دولية".
جدير بالذكر، أن مراقبين أكدوا سابقا أن دخول فرنسا للعراق بشكل قوي، سيصطدم بالولايات المتحدة، وهذا في حال واحد، وهو حصول فرنسا على استثمارات كبيرة في العراق، رغم أنهم أشاروا إلى أن الدور الفرنسي جاء بضوء أخضر أمريكي، لسد الفراغ الذي تركه انسحاب القوات الأمريكية القتالية من البلد.
يذكر أن فرنسا شاركت بمؤتمري بغداد 1 و2، الذي انعقد الأول في العراق، والثاني رعته ودعمت عقده في العاصمة الأردنية عمان، كما كشف ماكرون عقب المؤتمر الثاني خلال حوار صحفي معه "أنا مقتنع بأنه لا يمكننا إيجاد أي حل لمشكلة لبنان والعراق وسوريا إلا في إطار حوار لتقليص التأثير الإقليمي الإيراني".
بدورها، تعتقد النائب سهيلة السلطاني، خلال حديث له أن "توجه السوداني نحو فرنسا، والانفتاح على دول أخرى، لا يدع فرصة لجهة معينة دون أخرى لفرض الهيمنة على العراق".
وتضيف السلطاني، أن "هذا التوجه يفتح خطوط مناورة جديدة في حال حدوث أي أزمة ولا يسمح للشركات الاحتكارية بالسيطرة على العراق ويتيح تعدد منافذ الاستيراد والحصول على الطاقة والتعاون، وهذا يصب في تحرير الاقتصاد العراقي".
وتتابع أن "مجلس النواب سيناقش عند عودة السوداني ما وقعه من اتفاقيات، وكل لجنة تراجع ما تم توقيعه، فالبرلمان يجب أن يصادق عليها، ويمكن أن تتم استضافة السوداني لمعرفة تفاصيل هذه الاتفاقيات"، مؤكدة أن "تحركات السوداني محترمة، لكن واجبنا الرقابي يحتم علينا معرفة هذه التحركات ومدى جدواها الاقتصادية".
وكان العراق قد وقع عقدا مع شركة توتال الفرنسية بقيمة 27 مليار دولار، في زمن الكاظمي، لتطوير حقول الغاز، حيث تضمن استثمار أربعة مشاريع، أولها تطوير مجمع وتكرير الغاز في كافة الحقول، خارج اتفاقية غاز البصرة وهي حقول (أرطاوي، غرب القرنة/ 2، مجنون، الطوبة، واللحيس)، وثاني المشاريع، إنشاء مجمع الغاز المركزي الكبير في حقل أرطاوي، والمشروع الثالث، إقامة منشآت لإنتاج 1000 ميغاوات من الطاقة الكهربائية بالاعتماد على الطاقة الشمسية، بينما المشروع الرابع، هو تطوير حقل أرطاوي بهدف تعظيم إمكانيات إمدادات الغاز.